*مبدئيا، يعتبر الحكم القضائي الصادر يوم الاربعاء 9 مارس عن المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة والقاضي بحل كل ما يسمى بالتجمع الدستوري الديمقراطي وتصفية جميع أمواله العينية وغير العينية وممتلكاته من منقولات وعقارات، بمثابة آخر واقعة من سلسلة «وقائع موت معلن». اذ يعد هذا الحكم القضائي اعلان عن شهادة وفاة قانونية لهذا الجهاز بعد أن كان قد انتهى وجوده من الساحة السياسية منذ 14 جانفي يوم فرار الدكتاتور المخلوع بن علي. واقع الحال، أن القضاء قال كلمته، وأنه لا يسع المرء سوى أن يدرج الحكم القضائي المشار إليه ضمن الحالات التي يتدخل فيها القضاء لإقرار واقعة أو وقائع معينة ونقلها من حالة الوجود الفعلي (De Facto) الى حالة الوجود القانوني (De Juri). كان التجمع قد انتهى فعليا وواقعيا يوم انتصار الثورة، إلا أنه لا يبدو للمراقب أن منتسبي التجمع وقادته على السواء لم يستوعبوا حقيقة ما حدث فحسب، بل حاولوا يائسين، ولا زالوا يحاولون، تعطيل سيرورة التاريخ الذي كنسهم كما كنس رئيسهم وولي نعمتهم. من المؤكد أنه قد لا تتناطح عنزان حول مصير ما يسمى بالتجمع سواء من حيث تواجده وبالتالي نشاطه السياسي أو من حيث ممتلكات والأرصدة من أموال الشعب. لكن، لنسأل أنفسنا عما اذا كان سيقبل بمصيره المحتوم ويقتنع بأن التاريخ تجاوزه، والشعب رفضه والحق عاد لأصحابه وطالبيه وأنه لا رجعة الى الوراء ولا استبداد بعد اليوم في تونس التي نفضت عن نفسها أدران القهر والاستعباد. اذ يبدو المشهد جليا للمتأمل في تاريخ وممارسات هذا التنظيم ذو الجوهر الميليشيوي، بحيث لا تخطأ عين المراقب حقيقة أن هذا التنظيم أدمن الاستفراد بالسلطة، وأدمن التهريج السياسي، وأدمن الابتزاز بشتى أشكاله. حقيقة أن هذا جعلت منه تنظيما يشكو من حالة مرضية تستعصي على أي علاج أو اصلاح. اذ لا شيء يداويه سوى «الموت الرحيم»، وهو ما نص عليه حكم المحكمة الابتدائية بتونس. قد لا يتعب كثيرا المطلع على الأدبيات السياسية في معرفة الطبيعة التنظيمية للتجمع والعقلية الرابطة بين منتسبيه. فلا هو بالحزب السياسي، ولا هو بالميليشيا السياسية، بل أقرب منه الى شبه شبه، أي المنزلة بين المنزلتين أوالخليط بين الاثنين. لا هو بالحزب العقائدي، أو الجماهيري (على كبر عدد منتسبيه) ولا هو بالحزب البراغماتي حتى، بل هو عبارة عن تنظيم مشوّه الشخصنة وعبادة الفرد ديدنه، والنفعية الضيقة مبادئه والانفراد بالسلطة غايته، والغش والابتزاز أسلوبه والقمع منهجه. ليعلم قادة التجمع وعلى رأسهم زعيمهم الفار والقابع حاليا في تخوم أبها جنوبي السعودية، وليعلم جميع أعضائه وفلول منتسبيه ومناصريه أنهم محظوظين جدا، سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه. تعود حقيقة كونهم محظوظون الى سببين اثنين، اذ لم، وسوف لن، تظهر في تونس الثورة أصوات منادية باجتثاث التجمع ومحاسبة التجمعيين واجبارهم على التجمع من نفس ذات الكأس التي سقوها لما يزيد عن ستة عقود لأي نفس أو توجه سياسي معارض لهم سواء أكان داخل تونس أو خارجها هذا أو لا. اما ثانيا، ليتذكر جميع هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالتجمعيين بأنهم وبفضل الثورة وبفضل سماحة الشعب الذي تفننوا في استعباده والتنكيل به، يتمتعون برفاهية لم يحلم بها معارضوهم بمعنى، ها هم يقفون امام القضاء ويتمتعون بحماية القانون ويدافعون عن أنفسهم. ترى، من منا يتذكر متى وكيف سمح التجمع لمعارضيه بحرية التعبير عن الرأي كما يتمتعوا بها هم الآن برغم الجرائم التي ارتكبوها والانتهاكات التي أتوها والحقوق التي أهدروها؟ متى سمح التجمع لأية جهة سياسية بأن تجعل القضاء هو الجهة المخولة بالفصل في الخلافات؟ فالثورة التي يحاربون، وبرغم حداثة سنها، إنما هي أرقى وأنبل نظر مما يعتقدون، ان كانت لهم قدرة على الفهم والادراك. سيحاول التجمعيون المدمنون على الانفراد بالسلطة ابتزاز الثورة، وسيجربون جميع اشكال المناورات التي خبروها جيدا على مدى تاريخهم المخجل، مخطئ من يعتقد غافلا أن التجمعيين سوف يمثلون لحكم القضاء وسوف ينسون السلطة التي أدمونها طويلا. مخطئ من يعتقد واهما أنهم سوف لن يحاولوا الالتفاف على الثورة وتعويمها لصالحهم. ومخطئ ايضا من ينسى انتهازية التجمعيين ووصوليتهم بحيث أنهم سيترفعون عن استغلال مناخ الحرية الناجم عن الثورة وألا يحاولوا العودة ثانية تحت أشكال ومسميات مختلفة وذلك بعد أن قذفهم التاريخ ورفضهم الشعب وأنهاهم القضاء. صرح أحد قادتهم في لقاء صحفي بتاريخ 30 جانفي الماضي، بأنه يعتبر التجمع «وريث الحركة الوطنية ووريث حزب نضالي»، فليعلم هذا القيادي التجمعي العتيد الذي يحدثنا عن الإرث، أنه لا يمكن تصفية التركة الا بعد سداد الديون المستحقة وتنفيذ وصية الواصي. اما الديون المتخلدة بذمتهم، ورغم تراكمها على مدى ست عقود ونيف، لا تسري عليها أحكام التقادم. وأما الوصية، فهو واضحة وجلية لا لبس فيها: «لا ميراث لقاتل». يا شباب ثورتنا، إن التجمع سيتجمع، ولو بعد حين. فأحذروا وحاذروا وأعدوا لهم.