بقلم :بلقاسم حسن مضى على انتفاضة شعبنا وثورته المباركة ضد الاستبداد والفساد ومن اجل الكرامة والحرية والديمقراطية والتنمية الحقيقية حوالي ثلاثة أشهر إذ انطلقنا من اندلاع الشرارة الأولى أواسط ديسمبر 2010 باستشهاد المرحوم محمد البوعزيزي وحوالي شهرين من رحيل الطاغية بن علي... منذ ذلك التاريخ برزت عدة حقائق من أهمها أن الشعب يمهل ولا يهمل وأن شبابنا وقّاد وخلاّق ومواكب لعلوم وتكنولوجيا العصر وقادر على توظيف ذكائه من أجل حق شعبه في الحياة الحرة الكريمة ومقاومة الحكم الفردي والفساد والحيف الاجتماعي وهيمنة الطغمة الطاغية من حوله في عائلة أصهاره والحزب الحاكم وتسلطهم على مقدرات شعبنا وخيرات بلادنا وما مارسوه من جبروت وسطو وتعذيب وقمع وتهديد للبلاد حاضرا ومستقبلا. وأكدت الوقائع مقولة إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر. كما أكدّت أن الحرية لا توهب وأن الديمقراطية لا تعطى فلا بد من الأرواح الطاهرة والدماء الزكية فداءا للوطن وثمنا للحرية والكرامة. وقعت الانتفاضة المجيدة وأطاحت بالطاغية وعصابته الموغلة في الطمع والشجع والجهل ومارست مظالم صارخة في حق البلاد والعباد وعمت الانتفاضة كامل جهات البلاد في هبة شعبية عارمة وتأطير شعبي وهاج وشعارات موحّدة تنادي بالكرامة والحرية وتطالب بالتشغيل والتنمية والعدالة وتتصدى للاستبداد والفساد والحكم المطلق الفردي والحزبي. دماء الشهداء أينعت وولدت في تونس فجرا جديدا مفعما بالأمل ومبشرا بالمستقبل الأفضل والقطع نهائيا مع الديكتاتورية. كانت الانتفاضة عفوية صادقة مع جماهيرها عمدت مطالبها وشعاراتها بالدماء والأرواح لكن لا يمكن لأي تيار سياسي الادعاء أنه فجرها أو قادها أو انه اليوم وصي عليها ووريث لشهدائها. كل المجتمع التونسي عانى من طغيان بن علي وعصابته وكل القوى السياسية عانت من دكتاتوريته ومن تفننه في إطلاق الوعود وادعاء الإصلاح مقابل ممارسته الاستبداد والانغلاق والفساد. كل الشباب التونسي عانى من زيف بن علي ومن حكمه الخارق ولمس أكاذيبه ودعاويه وأدرك جهله وظلمه وعرف في عهدة الحصار والتعسف اليوم نحن جميعا أمام فاتحة فجر جديد وعلينا جميعنا ألا تضيع الفرصة لتحقيق الانتقال الديمقراطي وإرساء نظم يضمن سيادة الشعب والتعددية الفعلية والتنمية الحقيقية جهويا وقطاعيا ويمكن فعلا وحقيقة من ممارسة المواطنة والمدنية وإنجاز انتخابات حرة ونزيهة وشفافة تقطع نهائيا مع التزييف والتخويف نختلف في التقييم وهذا حق لنا فكفانا رؤية واحدة وحزبا واحدا وكفانا زعيما أوحد وفكرا أوحد. هناك اختلافات مؤكدة في الرؤى والأفكار والبرامج والبدائل وبالتالي بديهي ألا تشكل كلها وعاء واحد للسلطة والتسيير فيتجمع أقصى اليمين مع أقصى اليسار وما بينهما من تيارات ليبرالية وإصلاحية وقومية ووطنية وأحزاب وجمعيات بالعشرات وربما شخصيات وطنية بالمئات في هيكل واحد أو مجلس واحد فيما يشبه جوقة تجمع بين السنفونية والجاز والمزود والسطبالي والربوخ. لا نريد عزفا منفردا كما لا نريد على كل لون يا كريمة. من حق كل صوت ومن حق كل لون التعبير والتبليغ ولكن دعونا نفرز الأصوات ونحدد الألوان لكي لا يختلط الحابل بالنابل ويضيع كل شيء في الزحام. هناك مجتمع مدني يتشكل من الجمعيات والمنظمات الوطنية والعمادات والنقابات وهناك سلط مضادة تتمثل في الصحافة والمجتمع المدني وهناك هيئات رقابة دستورية ومجالات ضغط اجتماعية وهناك سلطة ومعارضة ومن المفروض أن تحكم ذلك كله القواعد المنظمة للحياة السياسية والمجتمعية وان تخضع كلها لسيادة الشعب ولدولة القانون والمؤسسات هي أول من عليه الخضوع للقانون الذي من المفروض ان يصنعه الشعب عن طريق ممثليه المنتخبين بكل ديمقراطية في انتخابات عامة حرة ونزيهة وشفافة. لذلك يأخذ تامين مرحلة الانتقال الديمقراطي أهميته القصوى ويتطلب اليقظة والوعي دون حسابات ورؤى ضيقة. و في هذا السياق يمثل انتخاب المجلس الوطني التأسيسى بعدا تاريخيا في مسيرة تونس المعاصرة وخاصة لمستقبلها ومستقبل أجيالها. كما يمثل الالتزام بمراجعة القانون الانتخابي بعدا ضروريا وكذلك مراجعة القوانين الأخرى خاصة قوانين الأحزاب والجمعيات والصحافة والشغل بعدا استراتيجيا على غاية الأهمية لتونس الحاضر والمستقبل...و المطلوب من القوى الوطنية الحية الانكباب على تقديم الرؤى السديدة لوضع حدّ نهائيّ لحكم المطلق والاستبداد السياسي والحيف الاجتماعي والفساد الاقتصادي والاستعداد لانتخابات المجلس التاسيسى من اجل وضع دستور جديد لتونسالجديدة واقتراح النظام السياسي المكرس للشعب ولمبادئ حقوق الإنسان والعدالة وقيم الديمقراطية والمواطنة والمدنية. و ليس أمام القوى الوطنية التقدمية غير الانتباه من الآن لهذه المهام الوطنية والشعبية دفاعا عن الديمقراطية وعن العدالة وعن التقدم وعن المجتمع المدني وعن التنمية الشاملة. هذا الاستعداد وهذا الانكباب يتطلبان استخلاص القوى الديمقراطي والتقدمية وتغليب ما يشجع على ما يفرق وبناء جبهة شعبية ديمقراطية. تقدمية لخوض الانتخابات القادمة ضمن رؤية تاريخية إستراتيجية تؤسس لجمهورية جديدة ولنظام ديمقراطي حقيقي. هذا الاستعداد وهذا الانكباب ضروريان حتى لا تبقى القوى الديمقراطية والتقدمية مهمشة ومشتّتة ومنطلقة من رؤى ضيقة ومن حسابات آنية. المطلوب الآن وليس غدا.الشروع في مشاورات وحوارات بهدف التنسيق أولا ومن أجل التحالف ثانيا في جبهة تقدمية عريضة يمكن أن تكون نواتها ممثلة في حركة التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي لتنطلق في اتصالات مع أحزاب وتيارات ديمقراطية أخرى من بين أحزاب وتيارات معترف بها قبل 14 جانفي وأخرى جديدة مع وجود حزام من الشخصيات التقدمية المستقلة ولجان مساندة في كل مناطق البلاد... ويكون ذلك على أساس أرضية مشتركة وبرنامج واضح وتصميم وعزم صادقين وبروح ديمقراطية وتقدمية مخلصة وتعال عن حسابات قديمة ورواسب قديمة لا يخلو منها أحد بدرجات متفاوتة ولكنها تبقى ثانوية وقابلة للتجاوز الحقيقي لأنها غير متأصلة في قواعد أو في برامج وبعضها فرضتها مقتضيات الوجود السياسي الأدنى والممكن السياسي في وقت طغى فيه الانغلاق والتحجر والتشدد. القوى الوطنية التقدمية اليوم أمام مسؤولياتها التاريخية، والتاريخ سيسجل لها وعليها ما ستساهم به لفائدة تونس وشعبها وأجيالها القادمة وما ستطرحه لاستعادة الشعب والشباب الثقة في الأحزاب للانخراط في صفوفها بعد سنوات الهجر والتشكيك والعزوف عن الانتماء.