بقلم : كمال الهذيلي لقد كثر الجدل والنقاش في الآونة الأخيرة حول الفصل الأول من الدستور وقضية الدين والدولة مثلما ثار نفس الجدل عند وضعه من طرف المجلس القومي التأسيسي في 25 جويلية 1957. فلقد جاء بالفصل الأول من الدستور ما يلي : «تونس دولة حرة مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها». إذن يستروح من الفصل المذكور أن واضعي الدستور في تلك الفترة ركزوا على وصف الدولة التونسية فهي دولة حرة مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دين الدولة والعربية لغتها والجمهورية نظامها. ولسائل ان يسأل عن المغزى والإرادة الكامنة في نفوس واضعي هذا النص. ماذا أرادوا أن يبلغوا ويعلنوا ؟! والجواب يكون بالرجوع طبعا للوضع المأساوي الذي كانت عليه البلاد في تلك الحقبة من الزمن، فهي كانت ترزح تحت الإستعمار وطغيانه وجبروته بحيث كانت حريتها مسلوبة وسيادتها على إقليم الدولة مفقودة.كما أن نظامها كان ملكيا يتسم بإنفراد السلطة والقرار والرأي ولا حول ولا قوة للجماهير أما التركيز على إسلام وعروبة الدولة فيفسر أيضا بالخوف من هاجس الإستعمار الذي سعى إلى طمس الهوية العربية والإسلامية. واليوم وأمام تجميد العمل بالدستور والدعوة إلى إنتخابات في 24 جويلية لإنتخاب مجلس تأسيسي سوف يتولى إعداد دستور جديد للبلاد وهو ما نأمله فهل مازالت الحاجة قائمة للمحافظة على صيغة الفصل الأول كيفما ذكر أعلاه. لقد تراوح الجدل بين الشرائح والفقهاء في هذه الفترة على الإبقاء على الفصل الأول كما ورد بدستور 1959 أو تعديله بتغيير بعض العبارات فتسند الحرية إلى الشعب عوضا عن الدولة فيكون الفصل الأول كما يلي : تونس دولة مستقلة يتمتع شعبها بالحرية والسيادة، العربية لغتها والإسلام دينها والجمهورية نظامها (مقال الأستاذ محمد الحداد. الصباح، 27 مارس 2011). والرأي عندنا أن تونس اليوم لم تعد في حاجة إلى مثل هذا الفصل بعد خمسة وخمسين عاما من الإستقلال. فهاجس الإستعمار قد زال أضف إلى ذلك النسق السريع للتحولات الإقتصادية والإجتماعية والفكرية والثقافية لمجتمعنا هذا علاوة عن الجدل العقيم الذي يمكن أن تعاد إثارته في هذه المرة و بأكثر حدّة حول مفهوم إسلام الدولة. فهل يعني ذلك شريعة الدولة وقانونها الساري على الكافة أما المقصود منه مجرد عقيدة لا تتعدى علاقة المخلوق بخالقه مع ما يمكن أن تنتجه هذه الفكرة من إقصاء لبعض الديانات الأخرى الموجودة داخل أرض الوطن. ولذلك أدعو من جهتي إلى تجاوز هذا الفصل بل الإستغناء عنه برمته للأسباب الموضوعية التالية: أولا: إن تونس اليوم بوصفها دولة إسلامية، عربية لم تعد في حاجة إلى أن تكرس ذلك بنص مهما علا شأنه لأن إسلام الدولة وعروبتها أسمى من أن تكرس في نص شأنه في ذلك شأن الحق في الحياة مثلا. فهل الإنسان في حاجة إلى أن ينصص عليه صلب تقنين؟ هذا من جهة ومن أخرى فإن الإبقاء على الصيغة القديمة أو حتى تعديلها سوف يطرح كما أسلفنا القول جدلا قد يعرقل عمل المجلس التأسيسي الذي سوف ينقسم لا محالة بين إسلاميين متحفزين إلى تركيز الدولة الإسلامية وعلمانيين يتوقون إلى فصل الدين عن السلطة وتحييد الدولة تبعا لذلك وهو ما قد يفرز مأزقا فكريا يصعب تجاوزه نظرا لدقة المرحلة. ثانيا : أسوة ببعض الدساتير الديمقراطية أرى من الأهم والأنجع تغيير الفصل الأول وتجاوز ما ورد به والتنصيص والتركيز على الحقوق الأساسية للإنسان وضمان كرامته واعتبارها غير قابلة للمساس والإنتهاك بأي وسيلة كانت وتحت أي عنوان كان. وأنه من واجب جميع السلط تشريعية كانت أم تنفيذية أو قضائية إحترام هذه الحقوق وعدم النيل منها بل إضفاء طابع القدسية عليها بحيث يصبح الشعب التونسي لا الدولة يعترف ويضمن كرامة الإنسان. هذا إضافة إلى تكريس مبدأ حرية الفعل و العمل والمساواة أمام القانون وحرية المعتقد والفكر والتجمع وتكوين الجمعيات والتنقل إضافة إلى ضمان سرية الإرساليات والمراسلات بإعتبارها من حقوق الإنسان الأساسية إذ وعوضا عن الصياغة القديمة يصبح موضوعه الحقوق الأساسية للإنسان وصبغته الإلزامية تجاه السلط العمومية. وهذا التمشي والمنهج يكرس في حقيقة الأمر والواقع المبادئ التي قامت عليها ثورة 14 جانفي المجيدة والتي من أهم شعاراتها ومبادئها الحرية والكرامة و المساواة واستقلال القضاء ونبذ منطق الإقصاء والإعتراف بحقوق الآخر. ولكل هذه الإعتبارات ومن منطلق الشعور بالمسؤولية والوعي بضرورة التغيير من أجل الإصلاح وتفادي الإنفصام والتشرذم، وإعادة التأسيس لإطار سياسي من طراز جديد توجها وخطابا وممارسة أقترح أن يكون الفصل الأول من الدستور كما يلي : تونس دولة ديمقراطية، يضمن شعبها للإنسان الكرامة والأمن والعدل، وأن حقوقه الأساسية مقدسة، وأن السيادة للشعب وأن الجمهورية نظام الدولة. وفي نظري هذه الصيغة هي التي تستجيب لمقتضيات العصر وطموحات المجتمع وتخدم بالتالي مصالح الفئات الشعبية وكامل المجموعة الوطنية. وصفوة القول فالرأي عندنا خلافا لما نادت به بعض الأصوات فإن إلغاء الفصل الأول من الدستور هو الحل الأكثر واقعية والذي يتماشى و ينسجم مع مبادئ الثورة. وهو إقتراح يجمع كل الطوائف ولا يفرقها وهو المنطق والمنهج الذي تحتاجه البلاد اليوم.