أثار دور «سلوى» الذي تقمّصته الممثلة أنيسة داود في شريط «عرس الذيب» لجيلاني السعدي ردود فعل مختلفة.. هذا حوار مع صاحبة الدّور: * يبدو جليّا أن أداءك في شريط «عرس الذّيب» ليس مجرد أداء جيّد لممثلة جريئة، بل هو تجسيم لقراءتك للنصّ ومن ورائه للواقع الذي ينتهي اليه السيناريو وأفرزه، كيف يبدو لك هذا الواقع التونسي المليئ بالتناقضات؟ - يبدو لي الشريط وليد التحولات التي يمرّ بها المجتمع التونسي والواقع التونسي، إذ أنّ الجيلاني السعدي، الذي كان متغيّبا عن تونس لمدّة طويلة، رجع وأحسّ بهذه التحولات والتغيّرات الجذرية التي يشهدها المجتمع، وهذه التغيّرات الجذريّة صاحبها، وهذا هو سرّ الخصوصية التونسية في نظري، نوع من الغموض. فتونس تغيّرت حتما، ثقافيا وعلى مستوى حدّة الاستهلاك وثقافته كذلك، التلفزة والإعلام تغيّرا، ولكن نشعر أنّ هناك شيئا ما، غامضا، لم يكتمل تحوّله ولم يتغيّر بعدُ. أوضّح، يبدو لي أنه لا وجود لمحصّل ثقافي مرجعي، هناك تململ، «شي بين بين»... فأنا أنتمي إلى جيل يعيش الظاهر منعزلا عن الذات وفي نفس الوقت يشهد عودة الى الروحي أو الديني. عندما رجع الجيلاني السعدي، ورصد هذه التحولات، وهذا التململ أو التمزّق، رصده بعين المحروم، بعين غير معتادة على ما نراه، وهو ما ضاعف في نظري في درجة الصدق عند فضح هذه التحوّلات. هناك تحوّلات على جميع المستويات، الثقافي، العائلي، القانوني، الليبيراليّة، استقرّت في تونس ولكن على أرضية لم تستعدّ كما ينبغي لقبول هذه الليبيراليّة، وهذا التناقض يغذي العنف، جيلي لم يتربّ على «استهلك تونسي» وفي الوقت الذي عاش فيه والدي بناء الدولة كان جهدنا سلبيّا، فكان جيلي جيل الخيبة العالمية: سقوط الأيديولوجيات نحن جيل بين بين في فضاء مجعول للتجريب على الدستور الثقافي والحضاري، نحن عرب ولسنا عربا في آن واحد، ثراؤنا الثقافي غير مستوعب، نحن جيل يجد عسرا في تحديد هويته، سقطت الإيديولوجيات. إنّنا جيل يميل إلى التظاهر لا إلى الانتساب. وأمام الفراغ والضياع، يسيطر على هذا الجيل الميل إلى الاستهلاك الفاحش أو إلى الحلم بالاستهلاك الفاحش، أو نحو مثال ديني، هو الآخر ليس من ثقافتنا في شيء، ولا علاقة له بعاداتنا، بل هو مثال ديني مستورد من الشرق، هذا الشرق الذي يستحيل بدوره مرجعا، لأنّنا في ذاكرتنا وفي لا وعينا نعتبر هذا الشرق عربيّا أكثر منّا.. هناك مشكل هويّة يتفجّر الآن، بعد الاستقلال كان لا بدّ من هويّة، أما الآن فلأمر مختلف لأنّنا إزاء حرب من نوع آخر، نحن في مواجهة حضارات ومشاكل مستوردة، ويبدو كلّ شيء في حالة صراع متواصل: المدينة والريف، المرأة والرجل، التقليد والحداثة... وهو ما يحجب فعلا القضايا الحقيقية وهي القضايا المتعلقة بالمواطنة. الإنسان العادي عاجز عن قبول فكرة المواطنة: صعبة فكرة التعايش لأنّ المواطن الحق يجب أن يكون قادرا على حلّ كل الصراعات والتناقضات أنا مواطن تعني حلّ التناقض بين أنا وتاريخي، أنا والاخر، المواطنة منزلة وسطى لم يبلغها أحد إلى الآن... وعدم بلوغها وتحقيقها يعني البقاء على هامش المجتمع. نحن ننتمي إلى سياق مليء بالمواجهات العنيفة، ويبدو أن جيلاني السعدي قد تأثر بهذا وصدم به، فعلاقات الصدام هذه موجودة وبحدّة وتبدو أكثر حدّة بين الرجل والمرأة، فالفرد يعاني من فراقه للقيم التي تربّى عليها، دون تحديد وجهة واضحة يسير اليها نحو قيم بديلة مرجعيّة. * ... ولكن بطلة «عرس الذّيب» امرأة كذلك...؟ - المرأة بدورها تعاني من هذا التردّد ومن هذه المنزلة المذبذبة... لا نحن في الحداثة... ولا نحن في التقليد، وعندما نريد الحداثة نرتمي في حداثة الآخر، (الغربي أو اللبناني...)... وهذا أيضا ينسحب على اختيارنا للتقليد... حتى التقليدي المرجعي عندنا هو تقليدي الآخر. «سلوى» في «الخربة» أمّ، تطعم، تواسي، تسامح، وتعطي في نفس الوقت قبلة باردة.. ثم تمارس الجنس بذلك البرود لأنها لا تملك غير جسدها تعطيه.. إنها لحظة تواجه «سلوى» فيها نفسها، تواجه نفسها بعد الاغتصاب كذلك، وضع العدسة اللاصقة... التزيّن بالماكياج.. الرقص سلوى جماع أقطاب ثلاثة، هي العاهرة، وهي القديسة وهي الأم، سلوى في المدينة، جميلة، شابة وعجوز في نفس الوقت، تحتضن وتُذل، وهي الأم الذي تحقق «لصطوفة» الطفل طفولته (مشهد اللقاء في الملهى)... هي قاسية كذلك.. أنا «صطوفة» نعاجز. شريط «عرس الذيب» قاس على الرجال.. لقد ذلّ الرّجال. * كيف وجدت التلقّي التونسي للشريط؟ - لدي ثقة كبرى في الجمهور، الجمهور يعاملك كما تعامله، الناس تناقشوا مع بعضهم البعض، علما أنّ النقاش لم يخل من التفاعل الأخلاقي أحيانا، ولكن «سلوى» أثارت اهتمام النّساء.. فمواجهة سلوى للحياة عرّت حقيقتها، سلوى تتزيّن للموت، لذلك انفعلت عندما مُزّق ثوبها الأحمر عند الاغتصاب، تعليقها ذلك (الاهتمام بالثوب أكثر من الاغتصاب) لم يعجب البعض ولكنه بالنسبة إليها، تمزيق الثوب عرّى الجرح العميق والمتعفّن... شخصيات السعدي شخصيات مرعبة: «الذهب» مثلا خلق من البشاعة وعاد إليها، ولكن كثيرة هي المشاهد التي يصبح فيها جميلا.. سلوى بشعة أيضا فما هي الحدود الفاصلة بين الجمال والبشاعة!! حقّا الجمال موجود في كل مكان. * ألا ترين أنّك قد تحملين الشريط، أكثر ممّا يحتمل... أم هو تفاعل وحياتي معه؟ - إذا كان لا بدّ لي أن أصف الشريط، أو أن أعرفه فإني أقول: إنه إعلان حبّ لتونس.. نشيد «لتونسنا» نشيد قبيحة كلماته ورائعة موسيقاه، قصيد جامع للحنين التام واليأس التام والأمل التام، «أمبرتوايكو» كتب تاريخ الفن وهو يكتب تاريخ القبح، أن تعبّر عن الجمال هو أيضا أن تعبّر عن القبح. من أكون، سؤال حارق ومعذّب بالنسبة إلى التونسي، وفي الحقيقة التونسي لا يتساءل من أكون؛ بل يتساءل: كيف أكون كي أنال الإعجاب؟ * كيف قال «عرس الذيب» كلّ هذا؟! - في عالم السّعدي هناك ثلاث درجات: الدرجة الأولى هي الصورة الحقيقيّة، والثانية هي صورة الآخر عنّا، والثالثة هي الصورة التي أقدمها للآخر. «سطوفة» عاجز عن تحقيق صورته الذاتية، «سلوى» ليس لديها الإمكان لتكون، فلبست قناعا.. إنّها لا تحكم شيئا وليس لها أمل. «سطوفة» يحلم ويتساءل فما يمكن أن يجعله سعيدا ولكنه عاجز عن ترجمة الحلم إلى حقيقة. «سلوى» تعيش الواقع، تبدو قادرة على التعايش والمقاومة والصراع إلى حدّ الشراسة... تمتلك وسائل الصراع ولكنها تفتقد إلى آليات الحلم والأمل.. كلاهما إذن يعيش الافتقاد وكلاهما ناقص.. ومعا يمثلان الشخص المتكامل. جديد الجيلاني السعدي، هو أنه نجح في جعل الرجل هو الحالم، والمصارع هو المرأة... هذه جرأة منه، في عالمنا المتوسطي الرجالي.. (سلوى أرجل من الرجال)!! ففي نفس الوقت الذي تخضع فيه لسلطة الرجل، تمنع سلوى الرجل وسيلة السيطرة.. كان مهما أن يفعل «سطوفة» شيئا ما.. ولكنه عجز عن ذلك: دافع عن «سلوى» نصف دفاع، وأحبّها نصف حبّ. وفي تقديري كلّ الشخصيات ماتت في النهاية.. أمّا «سلوى» فميتة منذ البداية لأنّها في قاع المجتمع... وهو ما جعلها تفهم الجميع جيّدا... في كلمة: سلوى حيوانيّة.. لديها تلك الطاقة الجبارة... أما «سطوفة» فلديه الحلم... والتزاوج بين الإثنين كان مستحيلا لأنّه لا سند له، حبّ مستحيل. * ولكن حتى اللقاء الجنسي بينهما في لحظة الحبّ الممكن، عند نهاية الشريط كان لقاء باردا، خاوٍ...! .. لا وجود لبطل في هذا العمل، ولعله أن يكون الشريط، هذا الشريط بالذات عربيّا يفرض أن يكون مرفوضا.. فسلوى ليست ضحيّة رغم أنّها اغتصبت، على الأقلّ لم يبدو الأمر كذلك، هي مغتصبة وتواجه لأنّها كانت جريح، وتواصل الصراع، وهذا الاغتصاب ليس الأوّل ولن يكون الأخير، ولا أوافق الهادي خليل الذي اعتبر مجانيا مشهد الاغتصاب، فالمشهد مدروس وطويل وصادق، وفيه تركيز على النّظرات دون تعرية... * ولكن العراء موجود في الشريط.. في بعض المشاهد..! هذا الى جانب الايحاء به... وكأن سلوى تكاد لا تُتَخيّل الا عارية! - ... لنأخذ مشهد الاغتسال مثلا، الجسد في هذا المشهد معنوي، فسلوى ليست جسدا متناسقا... إنّها جسد مهشّم.. تصور الكاميرا وعن قرب جسدا أعضاؤه منفصلة.. خال من أيّ ارتباط أو تناسق. في حين يتزامن رقصها مع موت الذهبي... لا وجود لتعايش.. والجسد أجنبي. * هل أنت «سلوى»؟ - أيّ امرأة يمكن أن تكون سلوى.. وأيّ رجل يمكن أن يكون سلوى، وهذا ما لفت نظري مع جيلاني السعدي، هناك رجال أحسّوا بألم عضوي، عند المشاهدة، أحسّوا عضويّا وجسمانيا بآلام سلوى ومآسيها وبأسها. اذ اختار في جيلاني السعدي لأداء «سلوى»، فإنّ هذا يرجع إلى وجود ما يحقّق في التّباعد عنها، أو وجود شيء ما فيّ يمكنني من مسافة تجاهها، طفولة وجهي.. ثم يبدو لي أن هناك شيئا رمزيّا غامضا، سرّا ما يترك المشاهد يتفاعل معها. «محمد قريّع»، له هذا أيضا، وجهه إنساني جدّا يثير تفاعل النّاس وجدانيّا معه، وبعمق كذلك (شأنه شأن خرمة)، أعتقد أن نفس الشيء يضخّ بالشبه إلى «سلوى» والعاهرة فيها تقتل الطفولة أذكرك بالمشهد الذي نغني فيه أغنية «تيتة تيتة... بابا جاب حويتة» هي تنهش.. (تنتش) والرجال ينهشون.. القضية قضية فعل وردّ فعل.. * ألا يندرج الشريط في رأيك ضمن خانة المقاربات النفسيّة المعروضة: الجسد، الانتقام، العقد.. والعنف..؟ - إنّ مجتمعا عاجز عن النظر إلى رموزه وخاصّة مواجهتها، وعاجز عن مواجهة عنفه الداخلي، هو مجتمع فاشل وعاجز. لسنا قدّيسين أكثر من الآخرين، ولسنا أقلّ قداسة منهم كذلك، العنف موجود في كلّ مكان، في الجزائر، في الغرب، في الحارة، عند جاري في حين أنّ العنف في السينما «كاثرسيس»، هو خوف وشفقة عند الفنان يولدان خوفا وشفقة عند الجمهور. أن تجعل المشاهد يشاهد امكان العنف أو الحلم، يعني أن تفرغ فيه هذه الرغبة... أفكر في هذا الصدد في كونديرا ودور الصدفة في رواياته وتقليب الوضعيات إلى حدّ مدهش من الغرابة. اذا فشلنا في النّظر إلى حياتنا بأشكال مختلفة.. فعلينا السّلام. * ما العهر في رأيك؟ - هو أن لا تكون معادلا لذاتك وراضيا عن نفسك، الخروج عن سياقك وعن سياق سيرتك الذاتية لأجل المال أو لأجل الأسرة لأجل المجتمع أو لأجل أيّة غاية ماديّة... أو الخوف.. أو عدم النزاهة. أفكّر في الحسابات الضيّقة.. يبدو لي أنّ هذا يهددنا جميعا، العهر يتربّص بنا ويهددنا جميعا، والجهاد الحق هو مقاومته، في جهاد داخلي مستمر.. لا ننسى أنّ بعض العاهرات أكثر جدارة بالاحترام حدّثوني عن عاهرة دخلت مستشفى أطفال بدون سند، وأرضعتهم جميعا. عندما يلتقي المقدس والمدنّس يولد الحقّ، تولد الإنسانية، نرى بذرة النور التي هي الله، وحكمة الله في سحرها الفارق في الغموض. * كلمة الختام..؟ - هذا الفيلم يمثل مقترحا نزيها، وأثرا خفيّا هامّا لأنه أثار الرفض والقبول، إنّه شريط يحمل موقفا، والأهمّ هو الموقف بداية الوعي بالنسبة إلى الإنسان، الفرد هو اتخاذ موقف من العالم شخصيات الفيلم عجزت عن اتخاذ موقف من العالم، وتعكس عجز جيل كامل عن التموقع واتخاذ موقف أو اتخاذ جميع المواقف في بعض الوقت. «أنا» أن أكون وحيدا، بمفردي في مواجهة العالم الكثيف، يعتبر أمرا مرعبا، ولكنه أساسي.. من أجل أن يكون لي موقف.