كان فرنسا الصباح لو كان محمد البوعزيزي إسرائيليا لخرجت بعد عشرات الأفلام حوله يعود أحد اليخوت الفخمة الراسي بمياه مرفإ "كان" المدينة المتوسطية بجنوب فرنسا المشهورة بالخصوص بمهرجانها السينمائي الدولي إلى المنتج التونسي طارق بن عمار. كان الرجل هناك كامل أيام الدورة الرابعة والستين للمهرجان (11 ماي إلى 22 من نفس الشهر) يستقبل ضيوفه ويدرس الطلبات ويعقد الصفقات وهناك التقينا بهذا المنتج الذي استطاع وهو المنحدر من تونس ذلك البلد الصغير الذي لا صناعة سينمائية له من أن يحتل موقعا بارزا بين مجموعة قليلة من المنتجين السينمائيين الكبار في العالم لا يصل عددها إلى أصابع اليد الواحدة، بل ويتقدمهم أحيانا فطارق بن عمار أصبح المنتج السينمائي الأول بأوروبا بلا منازع فكان هذا الحديث مع رجل بقدر ما يثير الفضول بنجاحاته في أعماله وبثروته وعلاقاته بعدد هام من أصحاب النفوذ السياسي والمالي في العالم ونجوم "الشوبيز" فإنه يبقى محاطا بكم من الإشاعات والتخمينات والتساؤلات.
ينبغي على السينمائيين في تونس أن يعوا أن السينما ثقافة واقتصاد
علاقاتك مع عدد من أصحاب النفوذ السياسي والمالي في العالم معروفة إضافة إلى كونك صديق عدد كبير من نجوم "الشو بيز" كيف تتعامل مع هذا الوضع وكيف تتعامل مع ما ينتج عنه من ردود أفعال خاصة عند الملاحظين؟
لا أعتقد أن هناك داعيا كي يخجل الإنسان من وضعه إذا كان ناجحا وأعتقد أنني نجحت في فرض نفسي بين عدد قليل جدا من المنتجين الذين يتحكمون في الصناعة السينمائية في العالم. هذا الوضع لم يأت نتيجة الصدفة فقد تحقق بعد سنين طويلة من العمل والجهد والصراعات حتى مع القضاء. كنت قد كسبت معركتي القضائية ضد عاصمة السينما العالمية هوليود وانتصرت كذلك في فرنسا مؤخرا بعد أن تهيأ للفرنسيين أنه بإمكانهم أن يفصلوا القانون حسب مصلحتهم. تعلمون ما أثير من احتجاجات حول صرف المستحقات الإجتماعية ذات الصلة بفيلم "الذهب الأسود" (إخراج "جون جاك آنو" وبطولة " أنطونيو بانديراس") الذي تم تصوير مشاهد كثيرة منه بتونس (صحراء توزر ومدينة الحمامات) ببلادنا وكانوا يريدون صرفها في فرنسا وانتهى القضاء الفرنسي بانصافي ودفعنا الأموال بالكامل في تونس.
قد يتقاطع هذا الأمر مع ما يوجه إلى طارق بن عمار من اتهامات حول الطريقة التي استعملها للإستفادة من مخابر قمرت التي وقع التفويت فيها إليك من النظام السابق؟
لم يقع التفويت لي في مخابر قمرت وإنما سوغتها لي الدولة لمدة ثلاثين سنة وقد استندنا في ذلك إلى كراس شروط والتزمت التزاما كاملا بالقانون. طارق بن عمار رجل يحترم القانون ولا يتجاوزه بالخارج فكيف له أن يضرب به عرض الحائط في تونس في بلده. أعتقد أن كل ما يقال حول مخابر قمرت لا صحة له. ويمكن التثبت جيدا من أعمالي في تونس ويمكن التثبت من الأجور حيث أنني مكنت المئات من شغل قارأوغير قار. ليس في ذلك منا مني على بلادي بل هو عمل أقوم به من منطلق في الإحساس القوي بالإنتماء للوطن. تحركني رغبة كبيرة في جلب الإستثمارات إلى تونس ثم أنني أعمل وفق الأعراف المعمول بها عالميا في مجال صناعة السينما وكل من يشكك في ذلك يمكنه أن يفتح الملف وفق القانون.
يعيب بعض السينمائيين التونسيين على المنتج طارق بن عمار ما يسمونه بجهده القليل لترويج الفيلم التونسي بالخارج وأنه يعتمد على تجهيزات فات زمانها في استوديوهاته بتونس؟
يهمني الفيلم التونسي بدرجة أولى ولا أرى موجبا كي لا أقوم بجهد كاف لترويجه بقي علينا أن نفهم أن للسوق أحكامها. لا يمكن أن نغامر بفيلم لا يشاهده إلا نفر قليل. علينا أن نعي جيدا في بلادنا أن السينما ثقافة واقتصاد في آن واحد. مشروع الفيلم لا يختلف عن العمارة التي يبنيها المقاول. هناك أموال يقع تسبيقها وهناك أسواق لا بد من ضمانها قبل الدخول في المغامرة لكن للأسف فإن السينمائيين في تونس مازالوا يتصورون أن المنتج عليه أن يضخ أمواله بلا شروط. أما فيما يتعلق بالتجهيزات أؤكد أن ما هو موجود استوديوهاتي في تونس متقدم حتى على تجهيزات "كوينتا" (اسم شركاته بتونسوفرنسا) بفرنسا. وبصفة عامة من يقول أن التجهيزات متخلفة لا يفقه شيئا من السينما فكل آلة نشتريها اليوم تصبح قديمة بعد شهر. كل يوم هناك أجيال جديدة من الآلات والتجهيزات والتقنيات وهي عملية تكاد لا تقف. هذا من جهة ومن جهة أخرى لقد تعاملت مع مخرجين كبار على غرار "جون جاك آنو" ورشيد بوشارب وغيرهم وكانوا مرتاحين للتجهيزات في حين لا يرضى التونسيون عنك مهما بذلت من جهد.
هناك من يعتقد أن لطارق بن عمار دورا سياسيا اليوم خاصة بعد تعيين مدير الإتصال في قناة "نسمة "(جزء هام من رأس مال المؤسسة يعود للمنتج السينمائي) على رأس مكتب الإتصال التابع للوزير الأول كما أنه سبق لقناة نسمة أن انفردت بلقاء وزيرة الخارجية الأمريكية خلال زيارتها الأخيرة إلى تونس، أي نصيب من الصحة في ذلك؟
ليست لي أية رغبة في ممارسة السياسة حتى وإن كنت سليل عائلة بالضرورة كانت قريبة من عالم السياسيين. كنت جد قريب من عمتي الراحلة وسيلة بورقيبة الزوجة السابقة للزعيم الحبيب بورقيبة وعانيت بعد ذلك بما فيه الكفاية عند خروج وسيلة بورقيبة من القصر وكما ما هو معروف اضطررت للهروب من تونس في منتصف الثمانينات من القرن الماضي وحرمت حتى من حقي في المواطنة كما تم الإستيلاء على كل ممتلكاتي في تونس حينذاك. ومع ذلك لم أكن في يوم ما أميل إلى ممارسة العمل السياسي. السينما كانت تستحوذ على كامل اهتماماتي منذ الصغر ولم يتغير الأمر إلى اليوم. وبالتالي فلا دخل لي في التنصيبات السياسية. بقي أنه من حقي مثل أي تونسي اليوم أن يرى بلده مقبل على عهد جديد مضيء بعد أن تحررت من الديكتاتورية وأن أكون متفائلا وأن أخاف على تونس من كل المخاطر.
أعلنت منذ فترة عن انتاجك لفيلم حول الراحل محمد البوعزيزي. أين وصلت مراحل هذا المشروع؟
نحن تقريبا في المرحلة الأخيرة من الإعداد للفيلم. قمنا بالدراسة اللازمة وتعرفنا إلى تفاصيل حياة الراحل محمد البوعزيزي كما أنه تم تحديد فريق الممثلين الذين سيكونون أغلبهم من المواهب الجديدة. عولت على المخرج التونسي محمد الزرن لأنني أردت أن يكون الفيلم تونسيا لحما ودما ولأنني مقتنع بأن التونسي يفهم أكثر من غيره ماذا حدث بالضبط وهو الذي يحمل على عاتقه عملية التعريف بالثورة التونسية بالخارج. ننوي أن نتقدم بهذا الفيلم إلى المهرجانات الكبرى وأن ننافس به في المحافل الدولية.
أي شخصية للبوعزيزي ستطرحها أمام العالم، هل هي الشخصية التي عرفناها في بداية الثورة مثلا؟
سنقدم محمد البوعزيزي الذي قامت الثورة على أثر حركة منه. سنقدم محمد البوعزيزي الذي انطلقت بحركة منه الشرارة الأولى للثورة في تونس ثم تسربت إلى العالم العربي من حولنا. لن نأبه بما تروج له الصحافة الغربية ولا اقصي منها الفرنسية للتقليل من شأن البوعزيزي لأن فرنسا والغرب فوجئوا بالثورة ولم يكونوا مستعدين للقبول بها بسهولة حتى أن أطرافا سياسية كما هو معروف حاولت عرقلتها (خاصة وزيرة الخارجية السابقة "ميشال آليو ماري" التي أطاحت بها الثورة التونسية). يريدون دائما أن يأتي التغيير بأمر منهم ولما قام الشعب التونسي بثورته دون استشارتهم تحاول صحافتهم التقليل من أهمية الحدث. كل الأخبار حول البوعزيزي لن تقلل من دوره التاريخي الحاسم. لو كان البوعزيزي اسرائيليا مثلا لخرجت عشرات الأفلام حوله تمجده وتسوق للعالم حركته. إن الثورة التونسية قام بها في نهاية الأمر الشباب اليائس والعاطل عن العمل، لقد قام بها من بات من الصعب عليه أن يجد كسرة خبز ولم يقم بها من يسمون ب"يسار الكافيار" وغيرهم من سياسيين وحقوقيين إلخ... لم يشاركوا فيها حتى وإن لم يكونوا في صف بن علي. لذلك فإن الثورة هي أولا ثورة صاحب العربة وثورة المتعبين حتى وإن التحقت بها فيما بعد الأطياف السياسية والنقابية والفنانون وغيرهم.
كيف يبدو لك المنطق القائل بتأجيل الحياة الثقافية في تونس إلى أن تتوضح معالم البلاد السياسية؟
أتفهم هذا المنطق وأفهم لماذا لا تكون الثقافة أولوية في تونس اليوم. هناك أشياء أهم من بينها الأمن والأمور الحياتية الضرورية لكنني أعتقد أن الثقافة في بلادنا ستجد طريقها إلى الناس رويدا رويدا. نحن بلد متحضر لا يقتصر على غذاء البدن ويولي أهمية كبيرة لغذاء الروح لكننا نعيش ظرفا استثنائيا نتمنى أن تتوضح الأمور على إثره بسرعة. ثم لا ننسى أن الثقافة هي بدورها عامل من عوامل خلق الثروة وفرص التشغيل وهي عامل تنموي مهم إذا ما أحسنا استغلاله.