وسط بحر لا نعرف له بداية من نهاية مزدحم بممثلين عن بلدان مشاركة في المهرجان وشركات أفلام ومهنيين وغيرهم كثيرون قادمين من آفاق ذات صلة بعالم السينما, هنا اتخذت تونس موقعا جميلا لها مطلا على مياه "الريفيرا" الشهيرة ب"كان" وتحديدا بالقرية الدولية الرّيفيرا. هنا في "كان" هذه المدينة التي تسلب العقل بمجرد أن تطأها أقدامك, هنا في هذه الجوهرة التي تسكن في قلب البحر الأبيض المتوسط جنوبي فرنسا وفي قلوب الملايين من السّياح الذين يتهافتون عليها من العالم يتواصل منذ 11 ماي الجاري مهرجان "كان" السّينمائي الدّولي في دورته الرابعة والستين وهنا غير بعيد عن قصر المهرجان ذائع الصّيت يفتح الجناح التونسي بالمهرجان أبوابه باكرا ويغلقها متأخرا ولم يكن علينا أن ننتظر كثيرا حتى نعلم السرّ. لقد ضخت الثورة التونسية دماء جديدة في سمعة تونس وجعلت هذا البلد الذي كان محبوبا لبحره ومناخه المتوسطي بالخصوص محل احترام وفضول فهو صاحب المبادرة في ما يحلو للغرب وللصحافة الغربية عموما تسميته بالربيع العربي. جناح تونس بمهرجان» كان « قبلة الكثير من الزوار يوميا وإذا ما علمنا أن مهرجان «كان» السينمائي الدولي يستقطب حسب الأرقام الرسمية مع كل دورة ما يقارب من 700 ألف زائر لكم أن تتخيلوا حجم الوافدين على الفضاء التونسي خلال هذه الدورة المهمة جدا بالنسبة لتونس. الزوّار كانوا بطبيعة الحال يأتون للإطلاع على ما تقترحه تونس من أعمال سينمائية خاصة وأن الإمكانية كانت متاحة للحديث على عين المكان مع مخرجين ومنتجين وغيرهم ولكنهم يأتون كذلك لمعرفة أخبار الثورة التونسية. الفرنسيون والأجانب من زوار «كان» الذي تضم لوحدها هذه الفترة حوالي 3 مليون سائح أظهروا معرفة بالتفاصيل وكانت أسئلتهم لكل من يعلن عن هويته التونسية تكشف ذلك دون أن يهملوا بطبيعة الحال تحية الإنجاز التونسي والوصف لمن اعترضنا في مختلف أروقة المهرجان. المهرجان في كان مهرجانات المهرجان في» كان «مهرجانات. صحيح هنا وكما يتفق الجميع تتعرف إلى زبدة الإنتاج السينمائي في العالم. الأفلام التي يتاح لها أن تعرض بالمهرجان تمر بعمليات انتقاء صعبة وقاسية جدا. لنذكّر مثلا بأن الأفلام الأربعة والخمسين التي يضمّها البرنامج الرّسمي للمهرجان هذا العام ومن بينها طبعا الفيلم التونسي « لا خوف بعد اليوم « لمراد بن الشيخ والذي ينتظر أن يعرض يوم الغد 20 ماي الجاري تم انتقاؤها من بين ما يقرب من 1800 فيلم. هناك دول ليست قليلة الشأن أوروبية وغيرها تغيب لسنوات عن المهرجان ليس طوعا وإنما لأن المواصفات التي تتطلبها المشاركة في مهرجان « كان» الدولي صعبة التحقيق. هذا فيما يتعلق بالبرنامج الرسمي فما بالك بالوصول إلى المسابقة الرسمية التي لا يتجاوز عدد الأفلام المتنافسة فيها على السعفة الذهبية 20 فيلما. صحيح كذلك أنه تنتصب في» كان « سوق ضخمة للأفلام مترامية الأطراف تشارك فيها الشركات الكبرى والأقل حجما. ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى المبادرة التي قام بها المخرج التونسي معز كمون الذي اتخذ لنفسه زاوية في سوق الافلام ببادرة خاصة منه وعلى حسابه الخاص وبدون مساعدة من أحد وفق تأكيده لنا على عين المكان لأن المشرفين على الثقافة في تونس في هذه الفترة وحسب تقييمه «أبوابهم مغلقة» وربما يعتبرون الثقافة شأنا يحتمل التأجيل. الأمر بالنسبة له لا يحتمل انتظارا أطول فكان أن حزم أمره بنفسه ولكن ما كان لمعز كمون أن يقوم بهذه البادرة المكلفة جدا لتسويق فيلمه الأخير « آخر ديسمبر « لو لم يتفطن إلى أن فيلمه لقي قبولا حسنا في البلدان الأوروبية التي عرضه بها مثلما أوضح لنا ذلك وهو ما شجعه على المغامرة التي أتت على ما يبدو أكلها. قال معز كمون الذي سبق له أن قدم كذلك فيلم « كلمة رجال « أن الزوار كانوا في الموعد وأن اتفاقات حصلت وينتظر أن تستكمل المناقشات في تونس. الأمر لم يقف عند تسويق الفيلم بالخارج وإنّما شمل كذلك فرص الإنتاج المشترك و»استدراج» المنتجين إلى تونس. لكن مهرجان «كان» ليس سينما فحسب. المدينة التي تكون أيامها حفلات ولياليها أفراح وبمجرد أن تدق الساعة منتصف الليل ترتقع الشماريخ على الشاطئ في ألوانها البديعة لترسم في السماء لوحات تشكيلية بألوان زاهية تبعث النشوة والفرح في القلوب تجعلك تعيش المشهد وكأنك بين الحقيقة والخيال. الحياة تدب هناك بقوة. المطاعم بجميع أنواعها فخمة وأقل فخامة تعج بالناس ليلا نهارا. الليل في «كان»: حكاية أخرى أمّا اليخوت الراسية على المرفئ فإنّها تكوّن مهرجانا في حدّ ذاته. مرتادو هذه اليخوت تراهم في كامل أناقتهم والطواقم الواقفة على «بوابتها « من نساء ورجال في ملابسهم الرسمية تجعل العين تسرح بكل فضول في أرجاء المكان ولكلّ عين ما شاء لها أن تلتقط من تفاصيل ولكل نفس ما طاب لها أن تحمل من مشاعر لكن المشهد يبقى مثيرا للكل ومن الصعب أن تمر بالمكان دون أن يلفت انتباهك. اللّيل هنا في «كان « حكاية أخرى, حكاية وكأنّها خارجة للتوّ من قصص ألف ليلة وليلة. أضواء الفنادق الراقية على الضفة الأخرى المقابلة للشّاطئ تبعث على المكان جوّا من الرومانسية. على رمال البحر تنتصب الخيام البيضاء المحروسة جيدا من الفضوليين وتنبعث منها أصوات الموسيقى العالية حيث تكون أجواء الفرحة أكثر من واضحة. وغير بعيد عن الخيام انتصبت شاشة ضخمة على الشاطئ ووضعت الكراسي على الرمال ضمن بادرة من اقتراح مهرجان «كان « أطلق عليها سينما الشاطئ. الطقس في «كان» ربيعيّا مشمسا في النهار والنسائم الرّقيقة تغمر النّاس بلطف في اللّيل. مشهد الصحفيين وهم محتشدون بالنهار وبالليل مسلحين بالكاميرا وبمختلف أجهزة الإلتقاط عن بعد ورؤيتهم وهم يتربصون بكل حركة ويقتنصون كل لحظة تبدو لهم مهمة علّهم يظفرون بصورة نادرة لنجم من النجوم العالميين المتقاطرين على «كان» يشكل بدوره مهرجانا. ليست العملية سهلة بالنسبة لهم لأن النجوم ب «كان « ليس من السهل أن تصل إليها وهي محتمية بأسوار الفنادق الفخمة ومتحصّنة بالقلاع المطلة على ضفاف البحر, تلك القصور الفخمة.