في تعليق على مقالة صدرت لي بجريدة الصباح (24 / 05 / 2011 ص 11) بعنوان "ثورة علي بن غذاهم، والهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة: ما أشبه اليوم بالبارحة ؟" كتب أحد الأصدقاء الذين أجلّ علمهم ونضالاتهم ما يلي: فعلا صديقي فيه تشابه كبير في التحالف الطبقي والخبث المدروس للالتفاف عل الثورة غير انّ بن غذاهم فشل وكان طمّاعا أيضا وثوّار الحال لا يزالون قياما ولم تحرق سفنهم بعد. وأحب عطفًا على ما تقدم - أن أواصل عقد المقارنات مع تحركات شبيهة حصلت في تاريخنا القريب والمتوسط لمحاولة فهم آليات تحرك الجماعة في فضائنا العربي الإسلامي، وحجم الكبت النفسي والثقافي الذي عمدت إلى تفجيره في ثوراتها عبر البحث عن نخب محلية تتحمل عنها مسؤولية ترجمة تلك الطموحات والنضالات إلى سياسات وهياكل وبُنًى، وهي في كل مرة تصاب بنوع من الإحباط، لأن طبيعة التربية الاجتماعية للنخب العربية المعاصرة وتركيبتها الثقافية والنفسية لا تسمح لها إلا بالقيام بالالتفاف على الثورات الشعبية - بشكل من أشكال لتشبّعها بالاعتقاد في «عُلْوِيَتِها» و»تميّزها» الذي يعطيها الأولوية والرفعة أمام شعوبها. لقد أصاب الأخ ظافر الصغيري (الصباح 28 / 05 / 2011 ص 9) في التذكير بأن قائد الثورة علي بن غذاهم هو من عرش ماجر من أولاد مساهل بجهة تالة وناجعتها، ولكن الثورة من جهة الدلالات المكوّنة للرأسمال الرمزي استمدت زخمها الثقافي وقاعدتها التنظيمية من التحركات التي عرفتها منطقة القيروان والوسط الغربي. كان أول إعلان رمزي عن العصيان بحسب ما ذكر ابن أبي الضياف في تاريخه التجاء زمرة من رعاع عامّة القيروان إلى مقام أبي زمعة البلوي، وإطفاء مصابيحه وتكسيرها، وتنكيس أعلام تابوته بعد قلبه، إلى غير ذلك مما رأوه في كيفيات الاستغاثة والالتجاء والتوسل ... وبهذه الأحوال وغيرها قويت نفوس المتجاهرين بالعصيان. تماما مثلما عمد محمد البوعزيزي إلى حرق نفسه. لم يكن علي بن غذاهم من فجّر الثورة، ولا من واكب حريقها الأول، بل إنه لم يكتسب صفته «كقائد للثوار ومتكلم باسمهم» إلا باتفاق سائر الجهات الثائرة على تقديمه. هنا تبرز للسطح مقارنة جديدة مع ثورة الكرامة 2011: يرجع ابن أبي الضياف سبب ذلك الاختيار إلى أنه لا يمتّ بنسب ولا مجد في بيته، وإنما يمتّ بما له من المعرفة بالكتابة والحذق في الرأي، ويغضّ الطرف على كون عرش أولاد مساهل معروف بمعارضته التقليدية للبايات الحسينيين، بل وثار على الدولة المركزية في سنوات 1795 1796، كما ثار جد علي بن غذاهم عليها سنة 1812، أي أن ما لخّصه ابن أبي الضياف في قوله الحذق في الرأي لا يعدو كونه تمرسا في ثقافة المعارضة وإدارتها. تماما كما حصل مع ثوار جانفي 2011 الذين اكتشفوا للحظة أن هروب بن علي لا يعدو كونه خطوة أولى في مسار ثوري طويل، ولذلك تداعوا إلى العاصمة في اعتصام القصبة واحد الشهير. «اتفقت» الثورة على تسليم زمام قيادتها إلى النخب السياسية التي كانت تعتقد في امتلاكها حدا أدنى من «الطهرية الثورية» وثقافة النضال السياسي، والتي تشكّلت فيما يسمى ب»المجلس الوطني لحماية الثورة» (وقد أمضى على بيان تأسيسه 28 حزبا ومنظمة من منظمات المجتمع المدني). ولكن هذه النخب سرعان ما «غرقت» في وحل مفاوضاتها التي لا تنتهي مع أرباب الحكم والعسكر، وسرعان ما استعاضت عن التماهي مع صيحات الجماهير وتطلعاتها بأطنان من المزايدات والمضاربات فيما بينها للتموقع وإعادة التموقع. وكانت النتيجة أن الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي سلّمها الثوار راية قيادتهم في القضاء على الدكتاتورية وبقايا دولة الفساد بعد أن أطردوا رأس النظام خانت (في الربع ساعة الأخير) معتصمي القصبة واحد وسلمَتْهُم (وعيا أو قصورا) إلى آلة البوليس تفعل فيهم فعلها ... تماما كما حصل مع علي بن غذاهم الذي استكان إلى وساطة الشيخ مصطفى بن عزوز شيخ الطريقة الرحمانية وأمانه الذي استخلصه له من الباي، بالرغم من تحذير أحد قادته له من الغدر الذي يحاك للثوار فرج بن دحّر من قبيلة رياح... وهو نفس التحذير الذي حمله بعض المحامين الشرفاء لمعتصمي القصبة صباح الجمعة 28 جانفي بعد أن أيقنوا (الغدر) من قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل وبقية فصائل المجلس الوطني لحماية الثورة، وبعد أن اتفقوا مع محمد الغنوشي (رئيس الحكومة آنذاك) على مهلة قصيرة لفك الاعتصام بالحسنى. وبالعود إلى قول الصديق عميرة عليّة الذي بدأنا به مقالتنا، فإن علي بن غذاهم فقَدَ بريقه عندما طلب في المفاوضات أمانًا لإخوته وقومه، وأمانًا لخاصة نفسه، وطلب هنشير الروحية وولاية أخيه على إخوته من ماجر، وأسعفه الباي لذلك وكتب له أوامره ... ولكن المتأمّل في مسيرة الرجل يلاحظ أنه لم يتقدم بتلك المطالب إلا بعد أن استوثق من قبول الباي لاستحقاقات الثورة والثوار، وبعد أن لاحظ خروج الثورة على مسارها بمحاولات تحريف «بلطجية» ذلك الزمن لمطالبها وأساليبها الشرعية في المقاومة (أنظر مثلا تبرأه العلني من سياسة النهب وقطع الطرق والاعتداء التي مارستها جموع فرج بن دحّر وغيره قائلا: نحن رعية اجتمعنا من خوف الغصب على ما لا طاقة لنا به، فإن قوتلنا دافعنا عن أنفسنا وأموالنا مدافعة المظلوم، والله مع المظلوم. وإذا صرنا إلى النهب وقطع الطريق صرنا ظالمين مفسدين، والله لا يحب الظالمين ولا المفسدين، ولا يغدرنا أحد من إخواننا المسلمين). ماذا فعلت النخب السياسية التي سلمها الثوار مشعل تفكيك منظومة الاستبداد (متمثلة في مجلس الوطني لحماية الثورة، أو بعد ذلك الهيئة العليا وتبيعاتها) غير التفاوض على استحقاقاتها الضيقة ودون تحصيل أيّ مطلب حتى للثوار ؟ ما يمكن قوله هو أن علي بن غذاهم، كما النخب السياسية التي تتكلم باسم ثورة الكرامة اليوم، لم يكونوا في مستوى الثورة، ولم ينجحوا في الارتقاء إلى مصاف المرتبة العليا لأسطورتها، كما تقول بيشي سلامة في تأريخها لثورة 1864.