بوجمعة الرميلي لماذا تبدو الثورات العربية وكأنها ناجحة في تونس و مصر لكنها متعثرة في ليبيا واليمن و سوريا ؟ ذلك ما سيعمل على تفسيره المؤرخون. لكن من الواضح أن التخطيط لبث الرعب بالتقتيل واستماتة الشباب في الاحتجاج والصمود وتعاطف الرأي العام الذي سئم تعسف والعائلة الحاكمة وتسلطها وفسادها وموقف الجيش الوطني وخصوصا الصبغة المباغتة بالنسبة إلى السلطة لكل هذه التطورات مثلت كلها عناصر هامة في الانهيار السريع وغير المنتظر للنظام التونسي السابق. ومهما يكن من أمر وبقطع النظر عن اختلاف التطورات من بلد إلى آخر فان الأهم هو أن المسار التاريخي لكل البلدان العربية سينقلب كليا إن آجلا أو عاجلا أولا بفعل الشرارة التونسية الأولى التي فتحت طريقا طليعية و لكن أساسا بناءا على الأوضاع الداخلية لتلك البلدان التي لن يستقيم أمرها في ظل الأشكال السياسية التي تجاوزها التاريخ. لكن المهم اليوم ليس في التفسيرات وإنما في معرفة الخطوات الفعلية في اتجاه استغلال الفرصة السماوية التي أهداها الشباب إلي الشعب التونسي والمتمثلة في إمكانية بناء نظام سياسي جديد عصري و ديمقراطي مبني على سيادة الشعب و حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والكرامة والشفافية والأخلاق. ولو لخصنا المسار التونسي إلى حد هذا اليوم لوجدناه يتمثل أساسا في أهم قرار اتخذ إلى حد الآن ألا وهو تحديد موعد انتخاب مجلس تأسيسي يأتي بعد تسعة شهور وعشرة أيام انطلاقا من 14 جانفي إلى يوم 23 اكتوبر 2011. ثم سوف يقضي هذا المجلس مدة تتراوح بين ستة اشهر وعام لتعيين هياكل تنفيذية انتقالية وصياغة دستور جديد. يلي ذلك انتخابات عامة تهم التشريعي والتنفيذي و المحلي والجهوي تستغرق بدورها مابين السنة ونصف السنة. أي بناءا على ما تقدم سوف تتوفر لدينا مؤسسات ديمقراطية منتخبة في اجل أدناه أكتوبر 2012 وأقصاه أكتوبر 2013. بحيث يصبح من الواقعي اعتبارأن مؤسسات الجمهورية الجديدة ستكون قائمة حوالي مارس 2013. وحتى ذلك الموعد - أي لمدة كامل سنتي 2011 و 2012 و ربع سنة 2013 - فان شؤون البلاد سوف تدار عل أساس الشرعية التوافقية دون سواها. وهنا تبدا التعقيدات لمواجهة ثلاث قضايا جوهرية مطروحة بصفة ملحة على الساحة السياسية التونسية. تتمثل الأولى في ضرورة عودة البلاد إلى حد أدنى من المصداقية المؤسساتية التي تمكن من استتباب الأمن و نهاية الفوضى وتواصل الدولة وعودة النشاط الاقتصادي وتوفر الظروف الملائمة لإيجاد الحلول العادلة للمطالب الاجتماعية والجهوية الملحة. وتتعلق الثانية بكيفية التعامل مع النزعة الجامحة نحو تأكيد «الذوات الحزبية» كهدف في «حد ذاته» يكاد يكون «بقطع النظر» عن كل الأهداف الأخرى. أما القضية الأخيرة فترتبط بمسألة التوافق الضروري من اجل البناء الوطني المشترك ولكن دون أن يحجب ذلك أمرا على غاية من الخطورة والمتمثل في أن هناك اختيارات ورهانات حداثية كبرى لا تزال محل اختلافات هامة وجوهرية ومصيرية لا يجوز طمسها باسم التوافق إذا أردنا أن لا نبني على الغموض وان لا نعرض المسار برمته إلى مخاطر الانتكاسة. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن هذه القضايا الثلاث متداخلة. لكن لا خيار على محاولة تفكيكها في اتجاه ترتيب ارتباطاتها وأولوياتها إذا أردنا أن نؤمن طريقا موصلة. وقد بات من الواضح بعد ستة اشهر من التجربة الثورية انه بالنسبة إلى المواطن العادي فان كل ما يراه على شاشات التلفزة و ما يسمعه في الإذاعات و يقرؤه في الصحف أصبح بالنسبة إليه ومع طول المدة لا يعدو أن يكون في اغلب الأحيان إلا من باب المهاترات التي لا طائل من ورائها إذا بقيت حالة الفوضى و التجاوزات اليومية - على كل الأصعدة و في كل الجهات على ما هي عليه. وبالتالي فان الأحزاب بصدد فقدان مصداقيتها بالجملة لأنها تبدو في الظاهر على الأقل أن ما يهمها أولا و بالذات هو التموقع من اجل السلطة بقطع النظر عن معاناة الشعب. ومن هنا فان الأحزاب مطالبة أولا وقبل كل شيء بالتجند الشعبي الموحد من اجل التصدي للفوضى التي تخرب المسار الثوري بما ينتج عنها من حالة غضب شعبية لا تستثني أي طرف. وبالإمكان أن يكون هذا التمشي الوطني مبنيا على التقاء كل الأحزاب الجمهورية بدون استثناء. الأمر الثاني الذي من الممكن الحصول في شانه على تقدم وطني توافقي يتمثل في الكف عن التراشق مع حزب النهضة وذلك بالخروج من المهاترات الإيديولوجية الفارغة والتركيز على مشاكل الناس ومشاغلهم بما فيه التخوف الكبير والمشروع و المدعم بأحداث حقيقية و ليست وهمية حول التهديدات التي تستهدف حقوق المرأة و حريتها والحريات الاجتماعية بصفة عامة و حرية التعبير بصفة خاصة و الذي من الممكن معالجته وطنيا و جماعيا من خلال إنشاء مرصد يقظة وطني وشعبي تشارك فيه كل الأطراف بما فيه النهضة تكون مهمته متابعة واقع الحريات والتصدي الوطني الجماعي لكل ما من شانه أن يمثل مساسا من حقوق الإنسان أو تراجعا في مكاسب المرأة أو تعطيلا للحركة السياحية أو تطاولا على حق المواطنين في التعبير الحر و الأمن و الاطمئنان. و أخيرا وليس آخرا صياغة اتفاق وطني حول برنامج اقتصادي و اجتماعي أدنى يستجيب للمطالب الشعبية الملحة والتي بقيت معلقة نتيجة الاضطرابات وعدم الاستقرار وتكوين لجنة وطنية خاصة للمتابعة اليومية الجهوية والقطاعية لتطبيق الاتفاق. إن مثل هذا التوجه الوطني الذي ينبني على مبدأ الأحزاب في خدمة الثورة والشعب و ليس العكس سوف يقلل من كثير من الشطحات الحزبوية التي لا تتصور نفسها إلا في أجواء المبارزات الانتخابية على النمط الأمريكي بحيث لن تنقصنا بعد ذلك إلا استعراضات الماجورات حتى تكتمل الصورة. بينما أمامنا مرحلة طويلة يكون فيها أكثر الأحزاب قابلية و شعبية من يكون همه الأول تخفيف الوطأة على الشعب حتى يتحمس للبناء الجمهوري الجديد و للمساهمة فيه مساهمة كاملة وفعالة.