كان المسرح البلدي بالعاصمة مساء الثلاثاء 5 جويلية المحطة الثالثة في سلسلة السهرات الافتتاحية لمهرجان قرطاج الدولي ذلك أن السهرات قد انتظمت كذلك بكل من حصن حلق الوادي وبمتحف قرطاج بالضاحية الشمالية للعاصمة. بلا بهرج وبلا زينة وبلا أيّ دليل على أنّنا كنا نعيش حدثا هاما وفي صمت ولج الجمهور إلى داخل المسرح الذي لم يكتمل نصابه. قد تبدو الأمور عادية بالنسبة لمن لم يواكب افتتاح أية دورة من دورات المهرجان خاصّة وأن علاقة الجمهور التونسي بالموسيقى السمفونية التي اختيرت للافتتاح ليست جياشة ولا حميمية كما هي بالنسبة للموسيقى الشرقية أو "الراب" أو"المزود" أو غيرها من الأنماط الموسيقية الأخرى ولكن بالنسبة للمتعوّدين فإن الافتتاح كان بعيدا جدا عن مستوى الحدث ويحيل على شيخوخة مبكرة جدا لهذا المهرجان الذي بدا هرما أو هكذا أريد له أن يكون على الأقل من خلال عرض المسرح البلدي بالعاصمة. ولكن مقابل ذلك لا يمكن نفي اجتهاد عازفي وعازفات المعهد السمفوني المدرسي والجامعي بقيادة المايسترو حافظ مقني وقد قارب عددهم الخمسين الذين اجتهدوا بالخصوص كي لا يغيب اللحن المميز عن سهرة افتتاح مهرجان قرطاج الدولي والحقيقة أن تلك المعزوفة كانت الوحيدة التي ربطت بين السهرة والمهرجان. الطلبة والتلاميذ بلا امتيازات هذه المرّة سهرة الافتتاح الرّاقية تابعها جمهور عدده معقول رغم عدم تمكين الطلبة والتلاميذ من امتيازات التخفيض في سعر التذكرة ورغم عدم وجود الاشتراكات. وقد مثل هذا العدد مفاجأة طيبة للمايسترو حافظ مقني حسب ما صرّح للصباح في نهاية العرض إذ قال: "أسعدني حضور ذاك الكمّ من الجمهور الذي صمد إلى نهاية العرض لا لقلة الثقة في أنفسنا فنحن كانت لنا عروض جماهيرية وناجحة سواء في المدن التونسية كالجمّ والعاصمة والمرسى والحمامات وسوسة والمنستير أو في الخارج وقد سبق أن قدمنا عروضا في كل من باريس و"بلفور" ومرسيليا وبيكين وفي براغ بتشيكيا وبرشلونة و"ليل" الفرنسية. ولكن مقارنة بتوقيت العرض فالساعة العاشرة والنصف توقيت غير معقول خاصة في الظروف الحالية وفي بداية الأسبوع مستبعدا ان يكون ثمن التذكرة -عشرة دنانير وخمسمائة مليم- ثمنا مشطّا نظرا لتكاليف العرض والمصاريف التي يتطلبها إعداده على أنه لم يكن يرى مانعا لو تم التخفيض في أسعار التذاكر للطلبة والتلاميذ. خاصة وأن كل العازفين في الأساس طلبة وتلاميذ صغار وأساتذة معاهد موسيقية مختلفة من تونس رغم أنه من بينهم من هم محترفون في الفرق الموسيقية والتونسية والعالمية". كان الجمهور من شرائح عمرية مختلفة ولكن غاب عنه الأطفال الذين يصطحبهم أولياؤهم عادة لمثل هذه العروض ربما ليزداد شغفهم بالموسيقى بعد أن أصبح تعليم الموسيقى شبه هاجس لدى بعض العائلات التونسية. أنصت هذا الجمهور بانتباه شديد وأطال التصفيق في نهاية كل معزوفة. وقد عزف الأوركسترالسمفوني من ألحان الألماني "ريشار ستراوس" و"كوكتالا " مختارا من بعض افتتاحيات المسرحيات الغنائية ذات الطابع الترفيهي ل "جاك أوفنباخ " ومقتطفا من "أنترميزو" للإيطالي الرومنسي "بيدرو مسكاني" والرقصتين1 و5 من الرقصات المجرية ال21 للألماني "يوهان براهامز" و"صوت الربيع" ل"يوهان ستراوس" و"الفالس" الثانية للملحن الروسي "ديميتري كوستاكوفيتش". معزوفات بطابع احتفالي خفيف ومن ألحان شقيق محمد مقني العازف بأوركستر الكابتول بتولوز الذي لحن حوالي 30 معزوفة موسيقية اختار المايسترو حافظ مقني مقطوعات: "بريلود" ( مقدمة ) وفيها مزج ذكي بين النغمات الشرقيةوالغربية واستعمل فيها الطار والدربوكة مع الآلات الغربية ذات النغمات الهادئة، و"ريغولاد" (مرح) ذات الطابع الترفيهي المرح واستعان بعازف الكمنجة أيمن ذاكر لتقديم رقصات رومانية كان لحنها المايسترو محمد مقني سنة 1972 واختار أيضا "المتوسطيات" ومعزوفة "نغمات من الصحراء" التي لحنها محمد مقني بمناسبة الاحتفال بمائوية الشاعر التونسي ابو القاسم الشابي ومعزوفة افتتاح "بلفور" التي قدمها محمد مقني في مهرجان "بلفور" للموسيقى الجامعية والمدرسية سنة 1992 وقد طعم العرض بمعزوفة "حنين" التي لحنها مراد قعلول خصيصا لوالدته ونجحت مروى مجدي عازفة العود في إيصال ما فيها من شوق وحنين وعاطفة جياشة ورغبة في احتضان الغائب دون أن ننسى تلك المعزوفة "التونسية الصينية" التي أعاد فيها محمد مقني توزيع موسيقى جملة من أعذب الألحان التونسية وسماها "سيدي ياسمين". و اختيار هذه المعزوفات لم يكن اعتباطيا وإنما كان مدروسا حسب ما صرح به المايسترو حافظ مقني"للصباح" وقال : "طبعا هناك رابط وثيق بين كل هذه المعزوفات وقاسم مشترك فقد حاولنا أن تكون كلها قصيرة زمنيا ذات طابع احتفالي خفيف وهادئ وراوحنا فيها بين مختلف الأنماط الموسيقية كما أنها في طبيعة الكتابة الهارمونية والتوزيع الأوركسترا لي". الشعور بالأمن ساعد على الاستمتاع والاسترخاء كانت الأجواء ليلتها بالمسرح البلدي منعشة حسب ما لاحظناه وأكده لنا عدد من الذين تابعوا العرض والذين لم يصدقوا تقريبا كيف أنهم قضوا السهرة براحة تامة في المسرح البلدي هذا الذي كانت توصد أبوابه في الصيف. فقد اشتغلت مكيفات الهواء وساعدت الحضور على الاسترخاء على مقاعدهم. كانت الظروف عادية تقريبا باستثناء حضور عونين بالزي النظامي داخل القاعة، تابعا مثل بقية الحضور عرضا على وقع الموسيقى في ليلة هادئة تماما. لقد انسابت الموسيقى عذبة رقيقة من بين أنامل عازفي الأوركستر السمفوني المدرسي والجامعي الذي تكون سنة 1989 بغاية تربية النشء على حب وتعاطي الموسيقى ومساعدتهم على اكتشاف روائع الموسيقى العالمية الكلاسيكية والعمل على إنجاز رصيد تونسي من الموسيقى السمفونية وتمكين العازفين التونسيين الصغار من مناسبات للعرض في تونس وخارجها.