عاصمة اوروبية موحدة وعملة اوروبية موحدة وعلم موحد ونشيد اوروبي موحد وفضاء اوروبي بلا حدود او حواجز.. انه الوجه المتجدد لاوروبا في سعيها المستمر للمصالحة بين اجيالها المتعاقبة في الغرب والشرق بعد طول انفصال وتناحر واقتتال لا تزال جذور صراعاته الاخيرة بينة في البلقان. اوروبا لم تتوقف عن تقديم الدروس والعبر لشعوب كثيرة ما انفكت تتفتت وتتشتت وتضعف وتأبى ان تستفيد من احداث التاريخ ومستجداته.. تسع دول جديدة تقع في الشرق مما كان يسمى بالجدار الحديدي وهي بولندا والمجر والتشيك وسلوفاكيا وسلوفينيا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا ومالطا التي انضمت الى عضوية الاتحاد الاوروبي قبل ثلاث سنوات تسجل انتماءها الى فضاء شنغن ويشترك قادتها وشعوبها في الاحتفالات بفك الحواجز الامنية المفتعلة استعدادا لمستقبل جديد مع مطلع العام المقبل بما يعني توفير المزيد من الوقت والمال للمتنقلين عبر اوروبا. أوروبا تتوحد والعرب تتشتت مشاهد كانت تبدو اشبه بالمستحيل قبل عقدين من الزمن ولكنها اكدت ان المستحيل قابل للزوال اذا توفرت الارادة السياسية المطلوبة.. وهي مشاهد من شانها ايضا ان تثير في الاذهان الكثير من مشاعر الغيرة لدى شعوب منطقة الاتحاد المغاربي مثل منطقة الشرق الاوسط ولطموحاتها المتبددة واحلامها المتبخرة... ففي الوقت الذي يحتفل فيه الغرب بالذكرى السنوية لسقوط جدار برلين قبل سبعة عشر عاما تشهد الخارطة العربية اقامة المزيد من الجدران العازلة من جدار الاعظمية في العاصمة العراقية الى جدار الفصل العنصري في فلسطين وصولا الى الجدار الامني بين العراق والسعودية دون اعتبار لجدران الفصل التي خلفها الاستعمار بين المغرب والجزائر والتي حكمت على القطار الذي كان يربط بين البلدين في عهد الاستعمار بالتوقف نهائيا.. فيما لا تزال الاحلام التي سوق لها القادة العرب والجامعة العربية بانشاء سوق عربية مشتركة وقوات عربية مشتركة مجرد حبر على ورق ويبقى الاتحاد المغاربي بدوره شاهدا اخر على فشل التكامل الاقليمي السياسي والاقتصادي بين دول المنطقة التي لا يتجاوز عدد سكانها السبعين مليون نسمة يواجهون صعوبات جمة وتعقيدات متعددة في الانتقال من بلد الى اخر.. ولا شك ان اتساع فضاء شنغن سيكون له تداعياته على المهاجرين من دول المغرب العربي بصفة خاصة الذين سيكونون في مواجهة قرارات اكثر انتقائية وعنصرية في تنقلاتهم الى اوروبا لا سيما فيما يتعلق باليد العاملة من غير اصحاب الشهادات الجامعية العليا او الخبرات المختصة.. والارجح ان طوابير الشبان اللاهثين وراء الحصول على تاشيرة الوصول الى اوروبا التي ما انفك سعرها يرتفع ستكون مضطرة لتكرار طلبها مرة بعد مرة قبل ان تفوز بفرصة العبور الى العالم الحر... مسيرة بطيئة ولكنها واعدة المواعيد التاريخية في اوروبا باتت تتكرر لتؤكد مرة بعد مرة انه لا مجال في عالم اليوم للتقوقع او الانعزال او التفكك وان التحديات الاقتصادية والامنية وحتى السياسية تقتضي اكثر من اي وقت مضى الاستفادة من دروس الماضي وعبره بما يخدم المصلحة المشتركة للشعوب الاوروبية بشقيها الشرقي والغربي.. فعوامل التواصل الطبيعي تبقى قائمة وتبقى اقوى من كل الانقسامات والاختلافات التاريخية والعرقية والدينية واوسع من كل المصالح الضيقة والحسابات الآنية ومن كل الصراعات والحروب الدموية التي هزت اوروبا طوال قرون.. المسيرة الاوروبية باتجاه التوسع والتوحد لم تكن من دون صعوبات او عراقيل وعلى مدى نصف قرن ظلت المعركة قائمة في مواجهة مختلف انواع التحديات الا ان الحلم الاوروبي لم يغب عن اذهان كبار القادة الاوروبيين منذ الخطوات الاولى للمشروع الاوروبي في بداية الخمسينات من القرن الماضي مع جمعية الفحم والفولاذ الى المؤسسة الاقتصادية الاوروبية وصولا الى اتفاقية ماستريخت واعلان الاتحاد الاوروبي ومشروع الدستور الاوروبي وهي مسيرة لم تكن لتخلو من الاهتزازات والازمات السياسية الثقيلة التي كانت توحي في كل مرة باجهاض المشروع الاوروبي قبل ولادته... من استونيا شرقا وحتى البرتغال غربا جاء الاعلان عن ازالة الحواجز الحدودية بين شرق وغرب اوروبا بعد انضمام تسع دول شيوعية سابقة الى اتفاقية شنغن التي تكفل لهذه الدول حرية التنقل والحركة وتسمح لنحو اربعمائة مليون اوروبي بممارسة حقهم في الانتماء لفضاء جغرافي واحد.. صحيح ان مثل هذه الخطوة لن تكون من دون تنازلات او من دون مخاطر امنية.. فالاكيد ان عصابات الجريمة المنظمة وتجار المخدرات والبشر وتبييض الاموال وغيرهم من المستفيدين من القطاعات اللامشروعة في انتظار مثل هذا الحدث لتطوير وتوسيع شبكاتهم الاجرامية وهو ما يستوجب ارادة سياسية لا حدود لها للتصدي لهذه المخاطر دون التنازل عن هذه المكاسب التي تحسب لشعوب اوروبا ولقادتها... فبعد اقل من اسبوعين على توقيع القادة الاوروبيين في لشبونة معاهدة جديدة لاعادة هيكلة بنية الاتحاد الاوروبي وتطوير مؤسساته وطرق اتخاذ القرار فيه جاء انضمام تسع دول جديدة الى فضاء شنغن ليعلن دخول اوروبا منعرج جديد في علاقاتها وخياراتها المستقبلية. وايا كانت قيمة التكاليف وحجم الانعكاسات التي يمكن ان تترتب عن هذه الخطوة فان الارجح ان فضاء شنغن الجديد سيشكل استثمارا سياسيا واقتصاديا وسياحيا وتجاريا مهما في المستقبل وسيكون سوقا استهلاكية مفتوحة للمنافسة ولكن ايضا قادرة على مواجهة الاسواق الاقتصادية الخارجية الكبرى للعملاق الصيني المتمدد والعملاق الهندي والامريكي. ويبدو ان ما اقدمت عليه سويسرا بالامس بعد توقيع عشر اتفاقيات مع الدول الاعضاء الجدد من شرق القارة بالاتحاد الاوروبي ما يؤكد الاصرار الاوروبي على انجاح هذا المسار وتغيير وجه اوروبا نهائيا بما يمكن ان يضمن للاجيال القادمة المزيد من فرص النجاح وبما يؤكد ان اختلاف اللغة والدين والعادات والتقاليد وتباين الجذور التاريخية لا يمكن ان يحول دون وحدة الاهداف المشتركة في تعزيز اسباب الرفاهية والكرامة والحرية والانفتاح ودعم الخيارات الديموقراطية. وقد ادرك قادة الدول الغربية ان ضمان استقرار اوروبا واستمرار مسيرتها ورقيها رهن تقدم الجزء الشرقي للقارة وطريقها الى وقف الهجرة التي اضحت غيرمرغوب فيها من دول جنوب حوض المتوسط وما باتت تحمله في طياتها من اعباء ثقيلة للحكومات الغربية... ان اكثر من سبب واكثر من مبرر من شانه ان يدفع الاتحاد المغاربي المتجمد ومجلس التعاون الخليجي المتعثر وغيره من التحالفات الاقليمية الى تأمل التجربة الاوروبية التي انطلقت لاسباب اقتصادية لتتمدد وتتسع وتتحول الى تجربة سياسية مثيرة ولكنها جديرة بالاهتمام..