صفقات عبر أجهزة المراقبة المالية لإلزام البعض بالولاء للرئيس المخلوع تضمن تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة معطيات كشفت عن ملف التهرب الجبائي الحاصل خلال حكم المخلوع. وقد أبرز التقرير ما اكتنف ذلك من تجاوزات خطيرة فاقت كل الحدود، خاصة في ما يخص التلاعب الذي يجري على مستوى المجلة الجبائية، وفي مجال توظيف الآداءات بشكل غير متكافئ على الفئات الاجتماعية النشيطة، حيث يبقى الموظفون والعاملون في القطاعين العمومي والخاص الأبرز في تحمل العبء الجبائي بنسبة تصل إلى 70 في المائة من جملة هده الأداءات، بينما تمارس أساليب ملتوية للتهرب من الأداء الضريبي لدى النسبة الكبرى من أرباب القطاعات الصناعية والتجارية والفلاحية، هذا علاوة على مظاهر التدخلات التي تمارس من أعلى مستوى في السلطة للحد من صلاحيات الرقابة. فقد أبرزت اللجنة أن ميدان الضرائب والجباية لم يسلم من ممارسات الفساد التي تولاها رئيس الدولة السابق نفسه والبعض من المسؤولين. ومن أخطر الممارسات التي كان يعمد إليها الرئيس المخلوع إلغاء الديون الجبائية لفائدة أسخاص من أقربائه أو من المقربين منه. ومن بين ما توصلت اللجنة إلى كشفه ضمن ملف الجباية العثور على مراسلة من الكاتب العام لرئاسة الجمهورية موجهة إلى وزير المالية السابق تضمنت "تعليمات سامية" بإلغاء ديون جبائية مثقلة على حساب مؤسسة تابعة لأحد المقربين منه و "الإذن للمحاكم بحفظ الملف"، وقد أبرزت تحريات اللجنة في هذا الجانب خطورة هذا التهرب والأضرار الناجمة عنه مما دعاها إلى إحالة الملف إلى النيابة العمومية بعد دعمه لكافة الوثائق المؤيدة لخطورة التجاوز الحاصل والأضرار الناجمة عنه. وضمن عينات أخرى كشفت عنها اللجنة في باب التجاوزات الخاصة بالتهرب الضريبي والتدخلات التي جرت داخلها أوردت أن شركة " جبيكوس" التابعة لابن شقيق المخلوع استفادت بتخفيض الآداء من 532853539 دينارا إلى 67596364 دينارا، أي تنازل عن مستحقات الحزينة العامة للبلاد بما يناهز 465 مليون دينار. وقد تولت اللجنة إحالة ملف في الغرض على النيابة العمومية للنظر فيه.
مصالح الجباية تتحول إلى وسيلة ضغط
وضمن متابعتها لملف الجباية بشكل عام والنظر في كافة التقارير المتصلة به تأكد للجنة من خلال التقصي أن مصالح الجباية تحولت في حالة معينة أو استعملت بناء على تعليمات من المخلوع إلى وسيلة ضغط على العديد من الأطراف أشخاصا كانوا أو مؤسسات، وقد أكد وزير المالية السابق ذلك. كما أكدت بعض العرائض وبعض الأفراد الذين استمعت لهم اللجنة أن مصالح المراقبة بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي استعملت لنفس الغرض وهو ما يعتبر انحرافا صارخا وخطيرا بمصالح المراقبة الجبائية ومراقبة احترام دفع المساهمات الاجتماعية عن مهامها المتمثلة في السهر على حسن تطبيق القانون واحترامه من قبل المؤسسات لخدمة أعراض شخصية لا تمت للمصلحة العامة بصلة تذكر. وبينت اللجنة في تقاريرها أن مصالح المراقبة الجبائية عمدت في مثل هذه الحالات إلى أسلوب الترفيع المفرط في مبالغ الضريبة المطلوبة على أن يتم في ما بعد النزول بالمبالغ المطلوبة حسب الظروف. ومن ذلك أن مراقبة جبائية معينة تم الإذن بها ضد مجمع مؤسسات ( ح. م) بصورة مكثفة، إذ تم تخصيص فريق لذلك وآلت المراقبة إلى مطالبة المجمع بمبلغ يتجاوز 24 مليون دينار، ثم تم في مرحلة لاحقة النزول بالمبلغ المطلوب إلى حوالي 8 ملايين دينار. وقد تزامن التخفيض في هذا المبلغ مع دخول رئيس المجمع كشريك ضمن شركة مع صهر الرئيس المخلوع بمبالغ ناهزت 14 مليون دينار، وقد أكد تقرير صادر عن الإدارة العامة للأداءات كانت قد وجهته الى اللجنة أن المبلغ الذي وقع استخلاصه من قبل مصالح الضرائب لدى المؤسسات التابعة للمجمع المذكور (8 ملايين دينار) هو المبلغ المستحق قانونا.
الجباية.. وأصهار الرئيس
وتوصلت اللجنة من خلال استعراض بعض الملفات الخاصة بأصهار الرئيس المخلوع والمقربين منه أن مختلف عمليات الشراء للعقارات والمساهمات تمت دون اجراء المراقبة الجبائية اللازمة لاستخلاص ما يتعين من ضرائب ومعاليم مختلفة. ومن ذلك مثلا اقتناء زوجة الرئيس المخلوع لعقار مساحته 5500 متر مربع قبالة الميناء السياحي ياسمين الحمامات تم مقابل سعر جملي قدره 100 دينار في حين أن قيمة العقار لا تقل عن مليوني دينار بالنظر إلى موقع العقار وقيمته الاقتصادية والأسعار المتداولة في المنطقة. وكان على مصالح الجباية إجراء مراقبة تجاه المؤسسة التي فوتت بسعر رمزي لتسلط عليها الآداء على الشركات بعنوان أعمال تصرف غير عادية ومخالفة لمصلحة الشركة فضلا عن تسليط معلوم تسجيل يحتسب على القيمة الحقيقية التي كان على الإدارة تصحيحها. كما أن العديد من العمليات التي تولى إنجازها أقرباء الرئيس المخلوع والتي أفضت إلى تسجيل "قيمة زائدة" كان من المفروض إخضاعها للأداء على الدخل بعنوان القيمة الزائدة، وقد تبين للجنة أن مصالح الجباية لا تتجاسر على مطالبة المقربين من الرئيس المخلوع بتصريحاتهم أو بالمبالغ التي يتعين دفعها بما يتماشى ومقتضيات القانون.
تدخلات مباشرة للرئيس المخلوع
كما اتضح للجنة أن بعض ملفات المراقبة الجبائية يتابعها الرئيس المخلوع بناء على عرائض يقدمها المعنيون بالأمر. ولاحظت أن الرئيس المخلوع أذن في بعض الحالات بالنزول بمبالغ الأداءات بصورة محسوسة، وكان يأذن لوزير المالية بإعادة النظر فيجد هذا الأخير نفسه "مجبرا" على البحث عن صيغ واجتهادات قانونية لخفض المبالغ إلى أدنى المستويات. كما لاحظت اللجنة أن مصالح المراقبة الجبائية تحرص على التعجيل بصورة غير معهودة في ارجاع فائض الأداء لشركة "ألفا بيس" التي يمتلك أهم نصيب في رأس مالها صهر الرئيس المخلوع بلحسن الطرابلسي، فبمجرد مطلب للاسترجاع تبادر الإدارة بإرجاع نصف المبلغ ولم يمر أكثر من شهرين إلا واسترجعت المؤسسة ما يفوق 5 ملايين دينار من فائض الآداء في حين أنه بالنسبة لبقية المؤسسات تتثاقل الإدارة في اجراء الرقابة الجبائية وفي اتمام الإرجاع عندما يتم الإقرار بوجود فائض الأداء. وبينت معطيات الملف المتعلق ب " ألفا بيس" تخصيص معاملة ومحاباة لفائدة صهر الرئيس السابق وصاحب المؤسسة بلحسن الطرابلسي مقارنة بالمعاملة التي تلقاها المؤسسات الأخرى من غير التي يكون أصحابها من المقربين منه.
انحراف بامتيازات الجباية
وجاء في الصفحة 286 من تقرير اللجنة أن عمليات البحث في الوثائق المتحصلة عليها أثبتت أن القناتين التلفزيتين الخاصتين " حنبغل" و"نسمة" تمتعتا بإعفاء من المعاليم القانونية بمقتضى بند تعاقدي تم ادراجه بإذن من الرئيس المخلوع وذلك لمدة 3 سنوات، وهو أعفاء مخالف لأبسط القواعد التي تحكم الجباية والمالية العمومية إذ أن مجلة الاتصالات لا تتضمن تنصيصا على إمكانية الإعفاء والحال أنه لا إعفاء دون نص صريح سابق للوضع ومن نفس الدرجة القانونية للأحكام التي أقرت الأداء أو المعلوم. والأخطر من ذلك أن تحقيقات اللجنة بينت حسب ما ورد في تقريرها أن قناة "حنبعل" لم تقم بدفع المعلوم السنوي والمقدر بمليوني دينار بعد انقضاء أجل الإعقاء التعاقدي ولم تتول المصالح المختصة القيام بالإجراءات الضرورية لاستخلاص الديون المذكورة. وجاء في التقرير أن اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد تولت مراسلة الوزير الأول في مناسبتين لاستنهاض المصالح الحكومية المختصة للقيام باستخلاص المعاليم المطلوبة قانونا من القناتين باعتبار عدم قانونية الإعفاء الذي قدم لهما في إطار "صفقة" حتي تلتزم القناتين بالولاء للرئيس المخلوع ونظامه. وعثرت اللجنة حسب ما جاء بالتقرير في صفحته 287 بالقصر الرئاسي على وثائق تدل على تفاهم بين معاوني الرئيس المخلوع وباعثي القناتين على سلوك " ولائي" للنظام مقابل غض النظر عن المعاليم المستوجبة من ناحية وتمكينها من مساحات إشهارية مهمة تتولاها منشآت عمومية إذ أن القصر كان يتابع بدقة المبالغ التي ترصد لكل وسائل الإعلام وخاصة القنوات التلفزية بعنوان الإشهار. ومن أمثلة الإستعمال غير المشروع للجباية وتحويلها عن وجهتها الأصلية كوسيلة لخدمة الصالح العام إلى وسيلة محاباة وتمييز للبعض من المقربين تتجه الإشارة إلى سوء استعمال الامتيازات الجبائية. وفي هذا الإطار لوحظ اللجوء إلى الفصل 52 من مجلة تشجيع الاستثمارات لتمكين المدرسة الدولية بقرطاج التابعة لزوجة الرئيس المخلوع من منح مالية تقارب 3 ملايين دينار بعنوان منح استثمار وامتيازات أخرى. كما جاء في تقرير اللجنة أنها عثرت على مذكرات بقصر الجمهورية بقرطاج تتعلق بالوضعية الجبائية لبعض الاشخاص والمسؤولين وأصحاب الأعمال، كما توصلت من وزارة المالية بمذكرة تتعلق بأحد المقربين من الرئيس المخلوع الذي أذن بالنزول بمبلغ الضرائب المستوجبة عليه من 476 ألف دينار إلى 124 ألف دينار مع العلم وأن الشخص المعني بالأمر عمد إلى الاستيلاء على عقار تابع لملك الدولة كان مخصصا من قبل وزارة الصحة لفائدة الجمعية التونسية لمقاومة الأمراض التناسلية و"السيدا" وذلك دون أن تحرك وزارة أملاك الدولة ساكنا باعتبارها مكلفة بالمحافظة على أملاك الدولة. ويبقى ميدان المراقبة الجبائية والعمل على إصلاحه من أبرز الميادين التي تستوجب تكثيف أعمال التقصي والبحث نظرا لما يمثله من رهان يكون من السهل "التفاوض" في شأنه بين عون المراقبة والطرف المطالب بالضريبة، كما أن ملف الجباية وما يجب أن يقوم عليه من عدالة وواجب يتطلب إعادة نظر كامل في أساليب تطبيقه، علاوة على شفافية في كل ذلك.