آلاف الشباب يغرقون في المتوسط على شواطئ مستغانم غرب العاصمة الجزائرية، يستيقظ شباب المدينة على واقع مر لا تطفئ حرقته إلا أحلام الهجرة للضفة الأخرى من المتوسط. أوروبا الجنة الموعودة التي يضحي شباب الجنوب بأرواحهم من أجل بلوغ ترابها هربا من قسوة الحياة في أوطانهم..هي الظاهرة التي لم تفوتها كاميرا المخرج الفرنسي المهموم بقضايا وطنه الأم الجزائر مرزاق علواش في فيلمه «حرّاقة» المشارك مؤخرا في أيام السينما الأوروبية ببلادنا. خطورة الظاهرة وعمق مأساتها على المجتمع الجزائري، عكسها المشهد الأول للفيلم الذي انطلق بجسد شاب معلق وبطاقة هوية ممزقة على الأرض..فعمر انتحر لأنه فشل في العبور لعالم أحلامه يقول في رسالة رحيله لأخته إيمان «إن تركت الوطن سأموت وإن بقيت فأنا ميت..فالنهاية واحدة في كل الحالات.» بهذه الحادثة بدأت شخصيات الفيلم تتالى في حضورها المنكسر واليائس لا تنقذها من فكرة الانتحار إلا الهجرة غير الشرعية التي تغزو أذهان المثقف كما الجاهل. فتظهر ملامح الحيّ الفقير الجزائري، الذي رغم افتقاره لأغلب كماليات العيش يحضر «البرابول» في واجهات كل بيوته وكأن كاميرا علواش بنقلها لهذا المشهد العام للمنطقة أقرت بثنائية الصراع بين الموجود والمنشود في حياة الجزائرين. في «حرّاقة» يقرر الثلاثي الشاب المتعلم نبيل وسمير وإيمان هجر الوطن الذي يقتل أحلامهم كل يوم وتسبب في موت عمر وينطلقون في مغامرتهم على قارب يضم عشرة أفراد يجوب المتوسط وجهته اسبانيا ..البوابة الذهبية لأوروبا كما يصفها «الحرّاقة» فتأخذهم المياه عميقا وتبرز صراعاتهم مع الذات والآخر..بعضهم قادم من الصحراء ولا يتقن فن السباحة ومع ذلك يخوض المغامرة وكأن لا معنى لحياته رغم شوقه لجمال وليالي الفيافي. مشهد صراع رجل الدين حكيم الذي يخلع لباسه الإيديولوجي ويرتدي قبعة أمريكية استعدادا للقاء شيخه في الغرب مع شرطي هارب من خطأ مهني ويؤدي لموت الاثنين غرقا يحيلنا على سنوات الجمر «العشرية السوداء» في تاريخ الجزائر، وكأن مرزاق علواش يقر في فيلمه بالضرر الذي لحق البلاد بسبب هذه الأزمة والتي بقيت آثارها واضحة اليوم. الفيلم (ومدته 135 دقيقة) لم يكتف برواية حكاية المهاجرين العشرة ونهاياتهم المؤلمة بين الغرق والسجن والعودة وإنمّا حافظ على بصمة علواش الوثائقية التي لا تخلو من جل أفلامه النابعة من نبض الشارع الجزائري ونقده الحاضر دوما لسياسة بلاده الاقتصادية والاجتماعية إضافة إلى تعامل الغرب مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية حيث أراد نقل الأسباب الحقيقية وراء رغبة الشباب في الهجرة وهي تحسين مستوى عيشهم المادي والفكري وتغير صورة الوطن المجسد سجنا في أذهانهم إلى أرض يحلو فيها العيش. فمرزاق علواش المخرج الفرنسي التكوين والحياة كان وفيا لهويته وأصوله وقد أتقنت صورته السينمائية إيقاع ومذاق المعاش الجزائري، فيما نقلت أدواته التقنية عملا مميزا على مستوى الإضاءة والصورة خصوصا بالنسبة للمشاهد المصورة في أعماق البحر، التي تؤكد حرفية صاحب العمل وفريقه المصاحب فرغم صعوبة تصوير مثل هذه المشاهد تمكن مرزاق علواش من تمرير صورة جيدة تقنيا وجماليا. شريط «الحرّاقة» الذي يقوم فيه بأدوار البطولة كل من نبيل عسلي و سمير الحكيم ولمياء بوسكين، شاهده جمهور كثيف العدد في قاعة الكوليزي بالعاصمة ضمن أيام السينما الأوروبية (من 19 نوفمبر إلى 7 ديسمبر) وذلك بحضور مخرجه الذي اعتذر للجمهور مسبقا عن ظروف العرض بسبب تواضع التقنيات المتوفرة رغم أن هذه المسألة لا تتعلق بمرزاق علواش وإنما بمستوى قاعات السينما التونسية والتي تبقى في حاجة لمزيد من العناية من أصحابها ومن الدعم السينمائي العمومي. وللتذكير فإن هذا الشريط الروائي الجزائري ذا المسحة التوثيقية تمكن من حصد عديد الجوائز الدولية على غرار جائزتي لجنة التحكيم وشبكة «أفلام حقوق الإنسان» في الدورة الماضية من مهرجان دبي السينمائي والجائزة الذهبية للدورة العشرين من مهرجان فالنسيا للسينما المتوسطية باسبانيا.