بعد أن «وئد» الزعيم الحبيب بورقيبة وأدا خفيا من قبل نظام المخلوع بن علي في»دار الوالي» بالمنستير في السنوات الأخيرة من حياته، واعتمدت بروتوكولات وهمية بعيدة عن الإعتراف بالجميل، وأقيمت جنازة لم تكن في حجم الفقيد.. قرّر الفنان محمد رجاء فرحات إنجاز عمل فني يليق بسيرة ذاك الزعيم كردّ اعتبار لنضاله ومسيرته الطويلة مع الشعب التونسي. فكان أن كتب مسرحية بعنوان «بورقيبة في السجن الأخير» ليقوم بالإخراج ويتقمّص دور البطولة بعد أن دام إنجاز هذا العمل قرابة العشر سنوات..المسرحية عرضت مساء الجمعة الماضي بالمسرح البلدي بالعاصمة، علما وأن مداخيل هذا العرض ستخصص لفائدة منظمة «كيوانيس» من أجل ضحايا الفيضانات الأخيرة في شكل مصالحة بين الثقافة والمجتمع المدني. المسرحية تنتمي إلى نمط «الوان مان شو» رغم حضور شخصيتين مجرّدتين صامتتين شاهدتين على الأحداث مشاركتين في الرواية، يجسّدان دور والي المنستير الذي احتضن بورقيبة وقام برعايته في سنواته الأخيرة، والممرّضة التي لازمت الفقيد واعتنت بصحته.. كما أن العمل الفني عموما اقتصر على الجوهر وتجنّب زركشة الخشبة وتوظيف عناصر أخرى..كأن صاحب النص والإخراج محمد رجاء فرحات أراد أن يشدّ الجماهير بما هو أهم، وهو استحضار «النضال البورقيبي» وتشبثه بالسيادة التونسية، إيمانا منه بوجوب إعادة الإعتبار لمؤسس الدولة الحديثة في تونس..
تقليد متفرد
ما من شك في أن بطل المسرحية محمد رجاء فرحات اعتمد العديد من المصادر التي تهم حياة الزعيم بورقيبة خاصة منها الخطابات المتنوعة والموجهة للشعب التونسي..حركاته وسكناته، كاريزمته وقدرته على إقناع الجماهير، فصاحته وتوظيفه الأمثلة الشعبية الموظفة.. دراسة كل هده العوامل دراسة معمقة، أفضت ببطل العرض الفني أن يجيد تقليد الفقيد إلى درجة أنك تشعر وكأن بورقيبة نفسه هو من تقمص الدور أو أنك بصدد مشاهدة فيلم وثائقي يسرد فيه معاناته في سنواته الأخيرة بالمنستير وازدرائه وسوء معاملته من قبل النظام البائد..
نرجسية الحوار
رغم المعاناة والإقامة الجبرية ومرارة المرض، نقل لنا بطل المسرحية ثبات الزعيم الراحل واعتزازه بنفسه من خلال استحضار سيرته النضالية الحافلة بالمغامرات سواء مع الأحزاب المعارضة أو مع سياسة النظام المستعمر ..عملية تصعيد مثلت سرده لفترة تميزه الدراسي وتفوقه في معهد الصادقية ومعهد كارنو إلى المحاماة في السربون، ثم وصوله إلى الحكم وتشبثه بالسيادة التونسية أمام المستعمرالفرنسي..وبناء الدولة الحديثة بعدما كانت الولاءات يغلب عليها الطابع القبلي نسبيا في تونس..إضافة إلى عنايته الفائقة بالتعليم وتخصيص أكبر ميزانية لهذا القطاع على امتداد ثلاثة عقود كاملة وهي المدّة التي حكم فيها البلاد..
المرأة ومجلة الأحوال الشخصية
مسألة حرية المرأة وتمتعها بحقوقها كاملة أخدت حيزا لا بأس به في مسرحية «بورقيبة في سجنه الأخير» ليبيّن محمد رجاء فرحات تعاطف الفقيد مع المرأة..الزعيم بورقيبة الذي يرى أن مجلة الأحوال الشخصية أقل ما يمكن تقديمه لتكريم المرأة التونسية المناضلة والجاهدة طيلة عقود التخلّف والاستبداد..
رثاء بورقيبة قبل وفاته
من طرائف الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أنه طلب من الشاعر التونسي أحمد اللغماني رثاءه بأسلوب يغلب عليه طابع الفكاهة قائلا له «نحب نسمعها توة آش ايهمني فيلي باش يسمعها من بعدي» فكانت المرثية بعنوان «كنت سيدا سيدا لسوف تبقى»..سرد بطل المسرحية البعض من أبياتها.. أيها الراحل المودّع رفقا- إنّ خلف الضلوع جرح يمور هو جرح ينزّ ما نزّت الذكرى بأوجاعها فشبّ السعير سيدا كنت سيدا سوف تبقى تحتفي باسمك الحبيب العصور