من سيحقق في المظالم.. وما مدى استقلالية هيئات كشف الحقائق؟ أكد منذ يومين الأستاذ نورالدين البحيري وزير العدل الجديد في حديث ل"الصباح" بأن "المساءلة والمحاسبة أمر ضروري، في نطاق القانون، من أجل طي صفحة الماضي وإنصاف المظلومين"، فمن أوكد الأولويات المطروحة خاصة على وزارتي العدل إلى جانب وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، وعلى المشهد الانتقالي بصفة عامة، ملف المصالحة الوطنية الذي يتطلب المساءلة والمحاسبة والمصارحة بعيدا عن روح الانتقام. تبقى كيفية تحقيق هذه المصالحة وآليات تنفيذها من أبرز المسائل التي ستشرع السلط المعنية، ودون شك، في تناولها بمعية مكونات المجتمع المدني والتنسيقيات والأكاديميات ذات الإهتمام بالعدالة الإنتقالية خاصة إذا ما وقع التدقيق في سير المحاكمات المتعلقة بشهداء الثورة وجرحاها وما سادها من تساؤلات من قبل عائلات الضحايا الوافدين على مقرات المحاكم والمجتمعين أمامها والذين يشككون من حين إلى آخر في نوايا المحاسبة الحقيقية والعادلة معبرين عن تخوفهم من إمكانية طي هذه الملفات بفعل المماطلة والتهرب والتمطيط في سير جلسات التحقيق.
فترة المحاسبة
فمن البديهي أن السلط المعنية ستستعين بالخبراء الوطنيين والدوليين وستأنس بتجارب الدول التي هبت عليها رياح الثورات إلى جانب بعض الدول الأخرى ارتأت فيها منظمات حقوق الإنسان النبش في تاريخ الانتهاكات وكشف الحقيقة ورد الحقوق إلى أصحابها على غرار التجربة الحديثة للمغرب. كما يمكن الإشارة أن من أبرز الإشكاليات التي قد تعترض سير العدالة الانتقالية تحديد فترة المحاسبة فهل ستبدأ من الفترة البورقيبية والمحاكمات الظالمة أم سيقع تحديد فترة حكم الرئيس المخلوع وما انجر عنها من تعد وحشي على كل مقومات حقوق الإنسان من كرامة وحرية وعدالة اجتماعية واقتصادية وسياسية أم سيقع تحديد الأولويات ثم التدرج في كشف حقيقة الانتهاكات على مدى نصف قرن أو ما يزيد عليه. أيضا من التساؤلات المطروحة في الوسط السياسي وبين صفوف الحقوقيين كما لدى الشارع التونسي بصفة عامة من سيحقق في هذه الانتهاكات ومن سيتولى مهمة كشف الحقيقة وكيف ستكون هذه المهمة هل سيقع تكوين "لجان حقيقة" أم "هيئات لكشف الحقيقة" وكلاهما يشترط فيهما الاستقلالية التامة ويخضعان إلى إشراف وزارتي العدل من جهة وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية من جهة ثانية وبمراقبة مختلف مكونات المجتمع المدني من جهة ثالثة، أم ستتولى سلطات الإشراف هي بنفسها كشف حقائق الانتهاكات. لقد أقر الخبراء في عدة لقاءات وندوات سواء كانت دولية أو إقليمية أو عربية انتظمت منذ سنوات قليلة ماضية حول العدالة الانتقالية، في مختلف دول العالم وانتهت إلى عدة توصيات، أنّ هذه العدالة تهدف إلى التعامل مع إرث انتهاكات بطريقة واسعة وشاملة وتتضمن العدالة الجنائية وعدالة جبر الضرر والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وهي إضافة إلى ذلك تنبني على اعتبار أن سياسة قضائية مسؤولة يجب أن تتضمن تدابير تتوخى هدفا مزدوجا وهو المحاسبة على جرائم الماضي والوقاية من وقوع جرائم جديدة، مع الأخذ في الحسبان الصفة الجماعية لبعض أشكال الانتهاكات. كما أن الحديث عن لجان حقيقة يفترض بالخصوص مجتمعات في طور التحول الديمقراطي أي وجود تحوّل سياسي يؤدي إلى إنشاء لجان حقيقة وتحديد مسار العدالة الانتقالية من أجل استكمال تخلّص هذه المجتمعات من تراثها السيئ وغير الديمقراطي الذي يتصف بالعنف وسقوط الضحايا وكذلك من أجل العمل على المصالحة باتجاه المستقبل.
بناء الثقة
وبالتالي فإنّ الظروف السياسية هي التي تحدّد في بعض الأحيان الأهداف والصلاحيات، لأن لجان الحقيقة حسب ما يُقارب الثلاثين تجربة في العالم هي نتيجة مساومات بين القوى السياسية والمجتمع المدني من جهة والسلطة الحاكمة من جهة أخرى، وفي بعض الأحيان وحسب رأي عدد من الخبراء، يتمّ تحديد صلاحيات اللجان وذلك نتيجة مساومة حول مسألة ذكر أسماء المتورطين في التقرير النهائي أو التستر عليهم؟ كما أن عدد الباحثين والخبراء في مجال تكوين لجان الحقيقة إشكاليات أخرى من بينها أهداف هذه اللجان طارحين تساؤلا جوهريا هل يمكن القول إن أهداف لجان الحقيقة لا تتعلّق بجرائم ذات طابع مؤقت أو آنيّ وتتعلق بجرائم ممتدّة. فالحديث مثلا عن واقعة تعذيب أو واقعة تتعلق بأعمال شغب أو انتهاكات أو تمرّد فهي بالطبع جرائم خطيرة، ولكن حسب حقوقيين لا تهدّد استقرار المجتمع بعكس الجرائم التي تحول دون حدوث مصالحة ودون وجود تطوّر سياسي وتمنع بناء الثقة بين السلطة والمجتمع. ولذا فان الغرض من تكوين لجان حقيقة هو الكشف عن الحقيقة ذاتها وذلك على أصول ثابتة لا يعتريها أي تزييف، فيتوجب على جميع الأطراف سواء الدولة أو ضحايا التعذيب أو غيرهم أو الجمعيات الحقوقية أن تعتمد في بحثها عن الحقيقة على أصحاب القضية الذين يمكنهم سرد الحقائق بكلّ جزئياتها وتفاصيلها. كما رأى الباحثون والمطلعون على تجارب الدول التي عاشت تحولا ديمقراطيا أنه يتحتم على منظمات المجتمع المدني أن تضبط مقاييس من أجل كشف الحقيقة والرجوع إلى المصدر الأصلي وهم الأفراد والضحايا الذين عانوا من التعذيب والإخفاء القسري وغيره لأن الأطراف الثانية بمن في ذلك الجلاّد لا يمكنها الوصول إلى الحقيقة بدون شهادات الضحايا.