- من الدروس المستخلصة من الثورة التونسية ،انها كذبت مقولة الفوضى الخلاقة،التي بشرت بها وزيرة الخارجية الامريكية كونداليزا رايس ابان الحرب. السابقة على العراق.كان ذلك في اطار الاعلان،عن مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي «قرر»بوش فرضه بالقوة على الشعوب العربية التي حكم عليها بالعقم وباستحالة تغيير احوالها السياسية اللهم بالتدخل الخارجي .لذلك فان الثورة السلمية التي دشنتها تونس ، كانت في وجه من وجوهها اعادة اعتبار للمجتمعات العربية،التي ظلمت من طرف النخب الغربية،هذه النخب التي اصبحت اليوم تراجع مواقفها ،وتعترف على لسان مفكر مثل هنري لورن ،انها « لم تتعلم شيئا كبيرا عن الشعوب العربية».وقد يكون هذا الجهل بقدرات الشعوب على تغيير احوالها من حيث لا تتوقع النخب،هو ما جعل هذه النخب وحكامها ، تراهن على حكام مستبدين بل تسوق لهم، على اعتبار انهم نماذج في الحكم بمقدورهم احراز»المعجزات الاقتصادية». هذا الانجاز الكبير للشعوب العربية ،الذي كشف فيه التاريخ ،عن حركة تسارعية مذهلة تأكد ايضا عندما تنجز هذه الشعوب انتخابات شهد القاصي والداني بنزاهتها وشفافيتها.وهي ككل استحقاق انتخابي تفضي الى فائزين وخاسرين ، تقع على كاهل كل طرف منهما مسوؤليات، تتعلق بنجاح المسار الديمقراطي.اي ان يلعب كل طرف دوره باسلوب متحضر ومجد يعاضد هذه العلاقة بين السلطة والمعارضة مجتمع مدني محصن بالاستقلالية عن السلطة وعن المعارضات.ومع الاقرار بان المسار الديمقراطي ليس خطا مستقيما،فهناك مجال لطرح سؤال عن ظاهرة حركات الاحتجاج والاعتصامات في ظل وجود المؤسسات والهياكل الشرعية..يطرح هذا السؤال، رغم ان دارسي الثورات يؤكدون ان كل ثورة لا بد ان تعرف في اولى مراحلها بروز حالة من المطلبية ، تتفاوت حدتها بحسب حدة المشاكل المتراكمة. لا بد من الاقرار ان الحركات الاحتجاجية السلمية، التي يمكن مشاهدتها ايضا في البلدان العريقة في الديمقراطية،ظاهرة طبيعية طالما لم يصحبها عنف او تعطيل لمرافق الحياة الا ان التعمق في بحث الظاهرة، يجرنا الى التساؤل عن نوعية الحوار السياسي والاجتماعي الذي يعتبر شرطا من شروط نجاح المسار الديمقراطي.ذلك ان هناك علاقة طردية بين «الحالة الصحية»للحوار وبين نسق الحركات الاجتماعية.لنأخذ مثلا عالم الشغل ، ولنبحث في العلاقة بين الحراك النقابي الموجود وبين حالة الغضب التي تعبر عنها الاعتصامات،ولسوف نخلص الى انه كلما خبا الحراك النقابي كلما بحث العمال عن قنوات بديلة يعبر عنها عن غضبه! فالاعتصامات والاحتجاجات هي الوجه الاخر للعملة في العلاقة بين اطراف الحوار الاجتماعي،وقد لا نجانب الصواب اذا قلنا انه من الوهم أن نعالج ظاهرة الاحتجاجات،بصفة مستدامة دون ان نعيد الاعتبار للحوار.ذلك ان هناك ازمة ثقة ومصداقية، لا بد من حلها،وهو ما يفرض البعث باشارات قوية من طرف جميع الاطراف مفادها وجود وعي حقيقي بالمشاكل ،وانخراط جدي في حلها ومصارحة حول بلوغ المنشود...اعادة الاعتبار للحوار ضرورة لان البديل عن ذلك هو حالة تكون فيها النخب في واد والجماهير في واد آخر! ولا بد لكل طرف في الحوار ان يتسلح بقدر من الشجاعة التي تستند الى مصداقية مكتسبة،لان التفاوض المفضي الى نتائج واقعية يتطلب فيما يتطلب،تنازلات وجدولة لبعض المطالب،ولا بد من قدرة على الاقناع،حتى تتقبل القواعد عموما نتائج التفاوض.الشجاعة والمصداقية هما المحصن ضد كل اشكال المزايدات ، التي ربما تجد في الظرفية مناخا مشجعا. المسألة اذا متوقفة على بعث اشارات واضحة، لان الساحة التونسية ليست في حاجة الى ان تخترع من جديد تقاليد الحوار الاجتماعي،بل في حاجة الى اعادة بعث حركية فيه، وذلك بتخليصه من الرواسب التي علقت به.تواجه النخب اذا تحديا مهما يتمثل في ردم الفجوة بينها وبين المجتمع وهو تحد لا يكسب اذا فضلت النخب ، الانخراط في الحلول السهلة.انفرط العقد الاجتماعي في تونس فتولدت عنه حالة من الغضب،ولكنه كان غضبا حميدا عندما انتج ثورة عظيمة . وعلى الجميع اليوم معالجة اسبابه حتى يعاد بناؤه. في بعض الادبيات الغربية نجد اليوم حديثا عن حقبة «ما بعد الديمقراطية» وهي حقبة تتولى فيها الجماهير التعبير عن مشاغلها عبر الحركات الاحتجاجية السلمية،لان الهياكل التي كانت تؤطر هذه العلاقة لم تعد تحظى بثقة الجماهير.فهل هي لحظة عابرة ام احدى ازمات الديمقراطية التي ينبغي معالجتها عن طريق توليد عقد اجتماعي جديد ينظم العلاقات على اسس حضارية وواقعية.