رغم أن بورقيبة لم يكن متحمّسا لفكرة القومية العربية نتيجة لثقافته التي غلبت عليها الحداثة الفرنسية وإيمانه العميق بالأمة التونسية وكذلك نتيجة لموقفه الشخصي من دعم جمال عبد الناصر لصالح بن يوسف ذي التوجهات القومية فإنه مع ذلك حافظ على علاقات طيبة إجمالا مع حافظ الأسد وحزب البعث الحاكم في سوريا.. ناهيك وأنه عندما توترت العلاقة بين تونس وليبيا سنة 1981 على خلفية قضية الجرف القاري وتمركز القوات الليبية على حدود تونس، أرسل حافظ الأسد وفدا إلى القذافي للتوسّط لحل الأزمة التي انتهت بسحب قوات القذافي وتطويق الأزمة السياسية آنذاك.. ولم تشهد العلاقات السورية التونسية طوال حكم بورقيبة أيّ «صدام» يذكر.. رغم المبادرات البورقيبية التي كانت في عدّة قرارات مناقضة لمسار القرار العربي كخطابه في أريحا وقرار استقبال الفلسطينيين بداية الثمانينات إلاّ أن ذلك لم «يعكّر» العلاقات الديبلوماسية التونسية مع أيّ قطر عربي.. وحافظ النظام البائد على علاقات مميزة مع النظام البعثي في سوريا بل تناقلت مصادر إخبارية مختلفة وجود علاقات أمنية ومخابراتية بين النظامين اللذين تجمعهما قواسم مشتركة خاصّة كالاستبداد واستعمال القبضة الأمنية الحديدية لتركيع شعبيهما.. واليوم ومع حكومة الترويكا وقرار طرد السفير السوري شهدت العلاقات الثنائية منعرجا يبدو أنه ستكون له نتائجه التي لا يمكن التكهّن بها على مستوى المنطقة وفي إطار الموازنات الجيوسياسية التي بدأت في التشكّل خاصّة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. وخاصّة مع صعود التيارات الإسلامية إلى الحكم في عدّة أقطار عربية خاصّة ونحن نعلم علم اليقين مدى التنافر بين المرجعية البعثية العلمانية والمرجعية الإسلامية للقوى السياسية الصاعدة بحيث عبر قوميوا تونس وبعثيوها عن غضبهم من القرار منية العرفاوي
عبد الله العبيدي (ديبلوماسي ومحلل سابق) :لنا هوية ديبلوماسية.. كان لخبر طرد السفير السوري من تونس تضامنا مع الشعب السوري وقعه «المدوّي» على الساحة السياسية وطنيا، مثيرا بذلك موجة جدل حزبي جديدة.. ودون الدخول في متاهات جدوى القرار من عدمه ارتأينا البحث في أبعاد أخرى للديبلوماسية التونسية من خلال هويتها وتقاليدها «التاريخية»، وما يمكن استشرافه بالنسبة للمستقبل في ظلّ تحولات جيوسياسية كبرى سيشهدها العالم.. وفي سياق ما تقدّم كان لنا حوار مع عبد الله العبيدي الديبلوماسي السابق والمحلّل السياسي.. ٭ هل يمكن الحديث في سياق ما أثير حول التحرّكات الأخيرة للديبلوماسية التونسية عن تقاليد وهوية ديبلوماسية تخصّنا دون غيرنا ؟ في الحقيقة لدينا تقاليد ديبلوماسية لأنه حتى قبل الاستقلال وفي سياق حركة التحرّر الوطني كان الزعماء الوطنيون قد أسّسوا لشبكة علاقات دولية للتعريف بقضية تونس سواء وطنيا أو على مستوى متعدّد الأطراف. وشبكة العلاقات هذه هي الإطار التي تمارس من خلاله الديبلوماسية وهذه الشبكة لم يتسنّ بناؤها إلا على أساس يراعي المصالح وكونية بعض القضايا.. وعندما استقلت البلاد وشرع في بناء أجهزة الدولة بما فيها وزارة الخارجية التي وقع تأسيسها على هذه الشبكة من الأشخاص والأجهزة كما على مستوى القضايا وهذه الشبكة تأسست انطلاقا من الهوية الديبلوماسية لأن المصالح بين الدول والمجموعات تنبني على ما تقتضيه مقومات الهوية التي تتضمّن مجموعة من القيم التي هي في الحقيقة ترجمة لمصالح بالتبعية وهذه المصالح تصبح امتدادا للهوية. ٭شهدت السياسة التونسية الخارجية منذ الاستقلال مواقف اتسمت بجرأتها وجعلت تونس محطّ أنظار العالم كخطاب بورقيبة التاريخي في أريحا واستقبال الفلسطينين في بداية الثمانينات والوقوف مع قضايا السود في جنوب إفريقيا فهل يمكن أن نقول أن قرار طرد السفير السوري يتنزّل ضمن هذه الحزمة الجريئة من القرارات؟ المواقف التاريخية التي تبدو جريئة والجرأة هنا تختلف عن المغامرة، هي تستند كذلك إلى شبكة من التحالفات فأنت إن لم تؤمّن طريقك إلى هدف ما فإنّك لا تستطيع الوصول إليه.. فحجم تونس يفرض عليها بناء تحالفات حتّى تؤمّن سلامة ترابها وسيادة قرارها وتحقيق رفاه مواطنيها. والتحالفات تدخلها تونس في إطار مقايضة مع شركائها بما لها من مزايا كالموقع الاستراتيجي للمنطقة والجيوسياسي الذي تنتمي إليه والموارد التي تكتنزها ومستوى التنمية البشرية بها وقيمة قياداتها. * كديبلوماسي سابق كيف تحكم على التجربة الديبلوماسية القصيرة في ظل حكومة الترويكا وما هي نظرتكم الاستشرافية لهذه السياسة في إطار توازنات دولية جديدة بصدد التشكّل؟ التذبذب والريبة التي تبدو على تحرّكنا الديبلوماسي في الآونة الأخيرة مردّها مقتضيات المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها البلاد.. وبالطبع هاجس أيّة مجموعة في الحكم هي تأمين شروط البقاء فيه والفريق الذي ارتقى لتوّه إلى سدّة الحكم هو اليوم بصدد تلمّس مشروع يكون في نفس الوقت مقبولا من الرأي العام ويؤمّن له الاستقرار في مواقع السيطرة والحكم. والفريق الحاكم يحرص على تثبيت صحة المسار وهو في هذه المرحلة يكاد يكون عديم التجربة ولم يوثق بعد صلاته بمن لهم خبرة صلب الأجهزة ولاستكشاف المحيط الدولي الذي نتحرّك فيه ولم يطلع على الملفات ولم يوثّق صلته بذوي الخبرة.. فهو في كل الاتجاهات يخطو خطواته الأولى فكيف والحالة تلك نستغرب من التذبذب الذي طبع أولى مبادراته. ونتمنّى للمسؤولين الجدد لسياستنا الخارجية أن يتوصّلوا الى علاقة ثقة مع موظفي وزارة الخارجية السامين تجعل هؤلاء يمارسون الديبلوماسية الحقيقية مع شركائنا الخارجيين أكثر ممّا يمارسونها مع القيادة السياسية الجديدة خصوصا وأن المهمة الأساسية للديبلوماسية هي مدّ الجسور مع شركائنا وتسويق القرار السياسي أيّ كان. العرفاوي
رشيد خشانة :القرارات المصيرية تحسم بالتشاور... كتب الناشط السياسي والإعلامي رشيد خشانة في أحد المقالات الصحفية الصادرة منذ مدة «إن النظام الحاكم في سوريا فقد أيّ نوع من الشرعية بإمعانه في ارتكاب مجازر جماعية لا يذكر التاريخ مثيلا لها عدا في زمن الخمير الحُمر بكمبوديا» وتساءل قائلا «ألا يقتضي المنطق، والحالة على ما باتت عليه، أن تكون تونس وهي رائدة الثورات العربية، البلد الأول الذي يعترف بالمجلس الوطني السوري، أو الثاني بعد ليبيا، ويقطع العلاقات مع نظام بشار الأسد؟ إن لدينا أكثر من سبب للإقدام على مثل هذه الخطوة، أولها مبدأ مؤازرة الشعوب الشقيقة الثائرة ضد الطغيان، وثانيها أن النظام السوري كان القدوة التي صاغ بن علي نظامه على قالبها، من حيث دور الأجهزة الأمنية في إدارة اللعبة السياسية والتعددية الديكورية عبر ما يسمى «الجبهة الوطنية التقدمية»، والسيطرة على المؤسسات الإعلامية من الداخل...». ويضيف رشيد خشانة في موضع آخر من المقال «شاهدنا بن علي يستقبل بحفاوة أعضاء من القيادة القومية لحزب البعث ويعطي تعليمات للصحف الموالية لأجهزته بإجراء الأحاديث معهم، لتلميع صورتهم، ولأحزاب الديكور بالاقتداء بهم. من هنا تغدو القطيعة مع النظام السوري اليوم رسالة للرأي العام الوطني والعربي على أن تونس تغيرت، وتغيرت معها سياستها الخارجية بما ينسجم مع أهداف الثورة، وأنها أيضا بصدد تصفية تركة النظام البائد». ورغم أن هذا المقال الصادر منذ أسابيع حتّى قبل تشكّل الحكومة الحالية في ظاهره يبدو مناقضا لموقف الحزب الديمقراطي التقدّمي الذي ينتمي إليه رشيد خشانة سياسيا باعتبار أن الحزب أبدى رسميا استغرابه من قرار طرد السفير السوري واعتبره متسرّعا لأنه اتخذ دون تشاور مع باقي الأطراف السياسية الفاعلة في المشهد، فبالنظر إلى جسامة القرار وفي سياق سعي أطراف بعينها للتدخّل في الشأن السوري بأجندات معلومة.. وعند اتصالنا برشيد خشانة لم ينف أن مقاطعة نظام بشار الأسد ضرورية بما فيها من إنصاف للشعب السوري لكن اللعبة السياسية العالمية اليوم تقتضي التروّي.. وأضاف أن «قرار طرد السفير ولو أنه قرار سياسي وسيادي بامتياز وبالتالي لا يمكن لكل قرار من هذا النوع أن يعرض للنقاش في المجلس التأسيسي ولكن بالنظر إلى «خطورته» وحساسيته وتفاديا لكل إشكال قد يثير جدلا في الشارع التونسي، كان من باب أولى وأحرى أن يطرح هذا القرار للتشاور بين العائلات السياسية الكبرى خاصّة ..» منية
القوميون والبعثيون في تونس:الحكومة احترمت اتفاقيات «التبعية» والأجندات الحزبية من الواضح أن قرار طرد السفير السوري لا يرتكز فقط على ما يحدث في دمشق وما تبثه قناة الجزيرة خاصة والاعلام عامة عن المجازر وسياسة القمع الدموية بل يخضع أيضا لأجندات حزبية يرى فيها بعثيو تونس تصفية لحساب قديم من النظام البعثي لذلك طرح السؤال، أي مصير للبعثيين في ظل أغلبية النهضة مع الحكومة والمجلس التأسيسي خاصة أن مواقف الرئيس المؤقت تتناغم مع أفكار وقرارات حزب راشد الغنوشي.. الاسئلة عديدة.. والاستفهامات متنوعة ومتشابكة الخيوط خاصة أن القوميين ككل يرون أن الاطاحة بالنظام السوري ضرب للأمة العربية وفتح المجال للقوى الاستعمارية الغربية لمزيد تركيز أسس ربيبتها اسرائيل في المنطقة العربية. وبينما ترزح مناطق الشمال الغربي تحت أكوام الثلوج وتوقف فيها الزمان، استغل بعض أعضاء المجلس التأسيسي الظرف لتنظيم مسيرات مساندة للشعب السوري في حربه ضد النظام لتثبيت قرار وزارة الخارجية تماما مثل المنتمين لحركة النهضة لكن للقوميين في تونس موقف مخالف ونظرة ذات أفق أوسع لهذه المشكلة والتي تحدث عنها ل«الأسبوعي» كل من الأستاذ بشير الصيد (الحركة الوحدوية التقدمية) وعثمان بلحاج عمر (حركة البعث). المؤامرة على الوطن العربي.. مستمرة قال الأستاذ بشير الصيد (الحركة الوحدوية التقدمية) إنه يستغرب تسويق القوميين على أنهم أعضاء في النظام السوري أو النظام الليبي وتحملهم موضحا ذلك بالقول :« الخطأ ليس في القومية بل في التطبيق ففي الاتحاد السوفياتي مثلا، لم يكن في المارمكسية (وإن كنت لست ماركسيا) بل في تطبيق أفكارها ولا يمكن بأية حال من الأحوال تحميل القوميين الذين لم يشاركوا في الحكم الأخطاء والتجاوزات في أي قطر عربي.. ولذلك هذه الأنظمة لها ايجابيات وسلبيات وتجاوزات باعتبار أن كل عمل بشري لا يحتمل دائما الصواب ولا شك أنه من أهم التجاوزات ما يتعلق بقضية الديمقراطية لكن في نفس الوقت هناك فرق بين من تولوا الحكم وبين قطر كامل مستهدف تماما مثل ليبيا التي كانت ضحية تحالف النيتو مع بعض الحكومات العربية وحصلت الكارثة... وما من شك أن ما يسمى بالربيع العربي ليس إلاّ صنيع بعض القوى والمصالح وتصفية حسابات لذلك يقول الاستاذ بشير الصيد: «ما حصل لليبيا ينطبق الآن على سوريا وقد قلنا هذا من قبل لكن عديدون غير متفهمين للرأي، فبقدر ما نحن ضد القتل في سوريا أو ضد النظام بقدر ما نؤكد أن المؤامرة تشمل كامل الوطن العربي حيث سيأتي الدور حتى على الدول التي دخلت التحالف القائم ضد سوريا وليبيا من قبلها بعد سقوط نظام بشار الأسد لذلك نعتبر قرار الحكومة ورئيس الدولة حول طرد السفير السوري قرارا ارتجاليا وليس قرارا مستقلا وإنما كان تحت تأثير حكومات أخرى وبالتنسيق معها..». وحول ما إذا كان هذا القرار يعكس موقفا حزبيا من البعث خاصة والقوميين عامة قال الأستاذ البشير الصيد:«.. هذا القرار انخراط في تدويل الازمة السورية وانخراط في الحلف الذي يريد الاطاحة بسوريا وبكل القوى الوطنية في الوطن العربي ولا داعي ولا مبرر للقرار الا هذا التحالف المشؤوم مما جعل السياسة الخارجية التونسية متسمة بالتشنج وعدم الاستقرار والهرولة الخالية من الحكمة.. كما أن الأمر لا يتعلق بالتونسيين بل بالوطن العربي لان المسألة أكبر من ذلك لهذا نود أن تتبع التيارات الوطنية أفق النظرة.. قرار الطّرد والأجندات الدولية والثابت أيضا أن البعثيين في تونس وغيرها يرفضون ما يحدث في سوريا (رغم التهويل أحيانا) وضد بشار الأسد حتى قبل اندلاع الازمة في سوريا لذلك يقول عثمان بلحاج عمر (حركة البعث ) :«الأمر ليس متعلقا بالنهضة والبعثيين لاننا نحن أصدرنا موقفنا من قرار طرد السفير السوري وقلنا «ما هكذا تضرب الابل» لأن تصرف النهضة والرئيس المؤقت المنصف المرزوقي تصرف حزبي لمن هم في الحكم ونحن نرى أن مسؤول الدولة عليه مراعاة مصالح الدولة إذ من غير المعقول احترام كل الاتفاقيات الدولية التي فيها تبعية لأمريكا وفرنسا وغيرهما ولا نحترم الاتفاقيات الدولة عندما يتعلق الأمر بسوريا لأن النهضة وحزب الرئيس لهما مشكل مع نظام هذا البلد وكأننا بهذه الحكومة تريد اليوم احياء صراع الاخوان والقوميين الذي ظهر عام 1947 .. طرد السفير يخضع إذن حسب البعثيين والقوميين عموما الى أجندات حزبية إذ يقول بلحاج عمر: «قرار الطرد يخضع لأجندات حزبية ودولية إذ صحيح أن الوضع السوري معقد وهناك انتفاضة ضد نظام قمعي لكن لبّ القضية هو التكالب الامريكي والأوروبي على هذه المنطقة لأن الولاياتالمتحدة لا تسعى للتدخل والتمركز في بلد محاذ للكيان الصهيوني من أجل الديمقراطية والحرية مثلما تدعي.. انظروا ماذا تفعل وما فعلت بالعراق.. إن التداخل بين مصالح الأمريكان والخليج وتركيا واسرائيل هو المزعج». ومن المنتظر أن تكون للتيارات التقدمية استراتيجة واضحة حيال هجمة النهضة على هذه الاطياف التي مثلت قوى مضادة بأفكارها وهنا يقول عثمان بلحاج :«حزب البعث ليس أشخاصا بل تجربة رائدة وأهداف أمة كاملة فالأفكار باقية طالما الأمة ما تزال مطمعا للإستعمار والبعث حزب فكر وقضية ورغم الإجتثاث الكلي الذي عشناه في عهد بورقيبة وبن علي صمدنا وما نزال على استعداد للدفاع عن أفكارنا من أجل الأمة وإن كنا لا نرى أن الشغل الشاغل للنهضة هو حزب البعث لكن إن ارتكبت الحركة الاسلامية نفس الخطإ لن تجد إلا مناضلين مدعومين بكل القوى الديمقراطية في تونس..».. عبد الوهاب الحاج علي