عشرات المناضلين من مختلف الأجيال والأطياف السياسية والحزبية عاشوا يوما تاريخيا أول أمس الأحد في سجن برج الرومي الناظور الذي عادوا إليه بدون أغلال ولا بطاقات إيداع.. بحضور عدد كبير من الإعلاميين والحقوقيين التونسيين والأجانب.. جاؤوا ليكتشفوا نزرا قليلا من معاناة وطنيين ومعارضين وطلبة ونقابيين من كل الاتجاهات شاءت إرادة بعض الحكام منذ مطلع الستينات أن يودعوا «غوانتانامو»التونسي.. وان يهدروا شبابهم بين زنزاناته ومغاراته الوحشية.. سجن الناظور.. أو سجن برج الرومي.. محتشد أقامته «دولة الاستقلال» قبل 50 عاما على أنقاض مخزن استعماري للأسلحة كانت فرنسا بنته في أعلى نقطة في المرتفع المطل على البحر الأبيض المتوسط شمالي مدينة بنزرت.. وشيدت قسما منه تحت الأرض لأسباب عسكرية حماية لمدافعها وذخيرتها.. وضمانا لنجاعة تدخلاتها العسكرية في مراقبة مدينة بنزرت وسواحلها.. من مخزن للأسلحة إلى مخزن للأدمغة؟ مخزن الأسلحة «تطور» إلى مخزن للأدمغة.. والى محتشد تعذيب واعتقال وقتل بطيء لأجيال من المعارضين للحكومات التي تداولت على حكم تونس منذ 1956.. شاءت الأقدار أن تكون زيارتنا إلى هذا «المحتشد الجهنمي «أول أمس الأحد وهو «يستضيف» لمدة ساعات عددا من الناجين من بين هؤلاء « المعذبين في الأرض «.. بدءا من مساجين معارضي « اتفاقية الاستقلال الداخلي « (الذين اصطلح على تسميتهم ب«اليوسفية») و«مجموعة الإنقاذ الوطني» أي أعضاء المحاولة الانقلابية الفاشلة في 1962(مجموعة الأزهر الشرايطي)..ثم أفواج المعارضين اليساريين والنقابيين والقوميين والإسلاميين.. من مجموعتي «أفاق « و» العامل التونسي « اليساريتين.. وصولا إلى الحبيب عاشور والقيادات النقابية ثم مناضلي تيار الإسلام السياسي من حركة الاتجاه الإسلامي وحزب التحرير فحركة النهضة والمجموعات السلفية..
رموز.. ورموز
كان بين ابرز الشهود في هذه الزيارة الحدث إلى محتشد برج الرومي الناظور عميد المناضلين علي بن سالم ورفاقه الزيتونيين واليوسفيين والقوميين.. إلى جانب عائلات عدد من شهداء المعارضة التونسية طوال العقود الماضية.. في نفس الوفد وقف عزيز كريشان والطاهر شقروش ومحمد معالي ورفاقهم من رموز المعارضة اليسارية لبورقيبة في الستينات والسبعينات جنبا إلى جنب مع عم علي بن سالم وقياديين بارزين في حركة النهضة «تخرجوا مؤخرا من سجن الناظور» مثل العجمي الوريمي (هيثم ) والصحبي عتيق ونجيب الغضبان وسيد الفرجاني..وحقوقيين ومحامين «طابت أرجلهم» بزيارة هذا السجن مثل السادة سعيدة العكرمي وزهير مخلوف وراضية النصراوي ونور الدين البحيري الذي عاد إلى السجن وزيرا للعدل مع عدد من رفاقه في حكومة « الترويكا» وفي الديوان الرئاسي وفي المكتب التنفيذي لحركة النهضة.. وحدتهم المصائب! بكاء ودموع.. وابتسامات انتصار.. وترديد للنشيد الوطني.. واستحضار لمشاهد عديدة من الماضي.. وترحم على أباء وأمهات وزوجات وأطفال ماتوا وأبناؤهم في المعتقل.. وآهات سمعتها من عزيز كريشان المناضل اليساري والمستشار لدى رئيس الجمهورية الدكتور المنصف المرزوقي ورفيقيه الطاهر شقروش ومحمد معالي..ومن عم علي بن سالم ورفاقه «اليوسفيين» و«الزيتونيين» و«الانقلابيين» ومن وزير العدل نور الدين البحيري وأرامل عدد من الشهداء والسجناء السابقين في «برج الرومي» والمحاميتين راضية النصراوي وسعيدة العكرمي..انه واحد من المواقع الذي وحد كل المعارضين التونسيين بصرف النظر عن ألوانهم السياسية والحزبية وخلافاتهم الإيديولوجية والثقافية ونزاعاتهم القديمة الجديدة على المواقع والكراسي..
فتح صفحة جديدة؟
الجميع لا يكاد يصدق حدوث هذا «المنعرج التاريخي» ومشهد المصافحة بين السجان السابق والسجين.. بين القضاة والحقوقيين والإعلاميين وعائلات المعتقلين و«الحارس».. بين «المربوط» و«الكبران» وممثلي الدولة والقضاة والمحامين.. ورغم تنويه ممثلي جميع التيارات اليسارية والقومية والإسلامية بقرار غلق «زنزانات غوانتاناموالتونسي» في برج الرومي الناظور فان السؤال المحير في نظر عدد من الحقوقيين الذين حضروا تظاهرة أول أمس مثل عم علي بن سالم ومحمد القوماني وعزيز كريشان وسعيدة العكرمي والإعلاميين زهير مخلوف ومحمد معالي هو: هل ستطوى مرحلة التعذيب نهائيا ؟وهل لن يغلق محتشد الناظور لتفتح محتشدات «بديلة» بعد سنوات على غرار ما جرى بعد سنوات من اندلاع بعض الثورات الشعبية التحررية مثل روسيا والصين وإيران والسودان؟ بل هل لن يكون بعض من ساهم في الثورة وفي بناء تونسالجديدة مهددين بدورهم بدخول معتقلات جديدة على غرار ما حصل لعدد كبير من الوطنيين فور إعلان الاستقلال والذين كان ذنبهم الوحيد أنهم عارضوا حكومة يقودها رفاق الأمس؟ هل لن يتكرر سيناريو «الثورة تأكل رجالها» فتفتح سجون وزنزانات جديدة؟ هذا ما لا يتمناه أي عاقل.. كمال بن يونس
سؤال كبير يخامر كثيرين عندما يتعلق الأمر بالحديث عن تسمية المعتقل الذي اضطهد فيه غالبية السجناء السياسيين طوال العقود الماضية هل هو سجن برج الرومي أم الناظور ؟الصواب هو أن السجن الذي يدعى حاليا «حبس الناظور» كان يدعى عند فتحه مطلع الستينات « برج الرومي «..وهو عبارة عن مخزن سلاح سابق معزول في الجبل المطل على البحر وخليج « القروت Grotte « كان يستخدمه المستعمر للهيمنة عسكريا على مدينة بنزرت وساحلها.. وقد نقل إليه المعارضون السابقون لبورقيبة المعروفون ب» اليوسفيين» بعد أكثر من 6 أعوام قضوها في محتشد « غار الملح « الذي تقرر غلقه بسبب التشهير الدولي به..وفي «مغاور» برج الرومي قضى « اليوسفيون « سنوات من الاعتقال والتحق بهم من لم يعدموا من مساجين « مجموعة الأزهر الشرايطي «..الذين كانوا يسمون أنفسهم « مجموعة إنقاذ وطني « بعد فشل محاولتهم الانقلابية وإعدام رفاقهم..وفي أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات قررت السلطات تغيير اسم سجن « برج الرومي « ب» الناظور « وأطلقت التسمية الأولى على سجن بنزرت الكبير « الناظور «( الذي يبعد عن الأول حوالي 3 كلم ).. لكن غالبية السياسيين والإعلاميين ظلوا طوال عقود يسمون الأول « برج الرومي 1» والثاني « الرومي 2»..علما أن السجن الثاني اكبر من الأول ويتسع لحوالي 2400سجين في ظروف اكتظاظ مزعجة جدا..بينما لا تتعدى طاقة استيعاب الأول بضعة مئات من المساجين رغم ظروف الاكتظاظ..