- في الجزء الأول من مقاله توقف الكاتب عند محورين الأول يتعلق بالعدالة الانتقالية كمفهوم جديد للعدالة الاجتماعية في حين ركز في المحور الثاني على العدالة الانتقالية والمستفيدين من الفساد وفي الشطر الثاني من هذا المقال يقول: العدالة الانتقالية والمتضررون من الفساد النوع الأول من المظلومين هم غالبية الشعب الكريم الذين أرغمتهم منظومة الفساد على الانخراط طوعا أو كرها في الفساد. فالعامل و الموظف و رجل الأعمال و التاجر و المصدر و المورد و التلميذ و الطالب و الطبيب كانوا بشكل من الأشكال مقهورين داخل نظام يفرض الإتاوات و يحمي العلاقات المختلة و يبيح كل الخروقات. هذه الفئات روضتها الحاجة حتى قبلت بالأمر الواقع الذي كان سائدا, خضعت له و تماهت معه حتى أصبحت جزءا منه. و كل من تردد في الانخراط في هذا العفن الطبيعي كان يعتبر شاذا و يفوت على نفسه تحصيل حقوقه لا الحصول على منافع. فالحصول على شغل أو الانتداب في مؤسسة عمومية هو حق طبيعي حتى و إن جاء بطريق الواسطة و الرشوة لأنه حق في المقام الأول. هؤلاء لا تشملهم العدالة الانتقالية إلا من جانب تحصين القانون حتى لا يقعوا مرة أخرى في المنافعية و الابتزاز و يدفعون لاستجداء الفضل و المنة من القائمين على مصالح الناس و أصحاب القرار في الدولة. أما الفئة الثانية فهم ضحايا الظلم السياسي, أبرز مظاهر الفساد والاستبداد. لم يقتصر هذا الظلم على الحرمان من ممارسة الحقوق المدنية في التعبير و التنظيم بل طال الأرزاق و العائلات. آلاف ضحايا القمع السياسي تجاوز عقابهم ذواتهم و لحق بأهاليهم و أزواجهم و أولادهم و أصهارهم. كم من العائلات دمرت و تشتت و تفرقت و كم من الأولاد حرموا من العيد و التعليم و الشغل و حرموا من العمل و الكسب بسبب قريب مسجون أو صهر متهم؟ فما ذنب الأهل والأقرباء إذا اختار واحد منهم العمل السياسي و انخرط في الشأن العام؟ كل هؤلاء المتضررين, من حقهم, و من واجب المجتمع و الدولة أن تجبر بخاطرهم و تعوضهم كل ما فقدوه وهذا لا نقاش فيه. أما المعنيون أنفسهم من المناضلين السياسيين فلا يحق لهم بأي وجه من الوجوه المطالبة بأي جبر للضرر أو التعويض. هؤلاء لم يستشيروا أحدا لاشتغالهم بالسياسة, و لا دفعهم احد للإيمان بعقائدهم و لا فوضهم أحد بتبني الدفاع عن ما دافعوا عنه. كل نضالهم كان من أجل منظومة من القيم و المثل تبنوها و آمنوا بها وحدهم. و قد حققوا بفضل الله جزءا من أهدافهم و هو الإطاحة بهذا النظام و هم الآن يساهمون في بناء نظام جديد ربما يحمل جزءا أو كلا مما ناضلوا و تعذبوا و سجنوا من اجله. لذلك فلا يحق لهم المطالبة بفلس أو مقابل لذلك. و إذا كانت مسيرتهم هي جهاد في سبيل الله, أو في سبيل الإنسان, فليكن حقا في سبيل الله أو في سبيل الإنسان. إن ثقافة في سبيل اللهس تعويض و رفضهم لكل جبر للضرر. بل أعتبر أن تعويضهم إهانة لهم و لمبادئهم. وحتى من تحدثه نفسه بالتعويض فليتذكر أن كل قبض في الدنيا هو حرمان في الآخرة, وأن الرسول الكريم لما فتح مكة و تمكن في الأرض لم نسمع انه رد أو طالب برد حقوق المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم في مكة أو عوضهم عنها. يبقى أن هذا الالتزام الأخلاقي و الديني لا يلغي حقهم البشري و القانوني في التعويض إن أرادوا, ولا اعتقد أن فيهم من يريد. العدالة الانتقالية, ثقافة الثورة إن هذه المرحلة هي فرصة لهؤلاء المناضلين و الشرفاء لترجمة مفهوم نكران الذات و التضحية في سبيل الله و في سبيل الأهداف النبيلة و السامية. هي فرصة فريدة لا يجب التفريط فيها و مقايضتها بأي نوع من أنواع التعويض فلن تتاح فرصة أخرى لهذه النخب حتى تعيد بناء هذه المثل و القيم في المجتمع و الأجيال. تعيد إنتاجها و تعليمها لشباب هذا البلد الذي دمرته ثقافة الاستبداد والانتهازية. إنها فرصة لهدم كل معبد الفساد هدما نهائيا بإحياء ثقافة العمل الصالح من اجل الغير التي فقدناها من قيمنا و علاقاتنا. وهذا جزء أصيل من الثورة. لقد فقد الناس الثقة في مفهوم العمل من أجل الغيرومن اجل الوطن حتى لا تكاد تجد في الناس من يصدق أن القطوس يصطاد لربيس. وفريدة لإحياء مفهوم الصالح العام و موعد تاريخي لزرع بذرة حب الخير من جديد وخدمة الناس «لله في سبيل الله» وهذه فرصة لن تتكرر. هذه الحركة لا يجب أن تقتصر على عدم المطالبة بالتعويض بل تتجاوزها إلى عدم استغلال صفة مسؤول الدولة و الإدارة للاستئثار بتولي شؤون الناس لمجرد أنهم مناضلين. فتولي مسؤوليات إدارة الشأن العام تعتبر تعويضا و جبرا للضرر بشكل من الأشكال وهو ما يستوجب التفكير في المقاييس والضوابط أكثر من التفكير في الأشخاص والأسماء. يجب الانتباه أن الإنسان, مهما كان, معرض للانحراف والسقوط في حبائل مغريات السلطة والنفوذ « هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى». إن تولي شؤون الناس ربما يكون راحة للناس و خيرا للمجتمع, لكنه ليس بركة و نعمة لهم, بل خطر عليهم و امتحانا لصدق سريرتهم قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الأعراف, و قد أهلك عدوهم و استخلفهم في الأرض,لكنه ينظر كيف يعملون....... إطار سام ببنك