انعقدت يوم أمس بالمجلس التأسيسي جلسة سرية لمناقشة جملة من المواضيع من بينها.. «الوضع الاجتماعي للنواب»!! و«الوضع الاجتماعي» هنا، دون شك، بيت القصيد إنما هي صيغة محتشمة تعني في الواقع تحديد المرتب والامتيازات التي سيقع إقرارها لفائدة نوابنا المحترمين. إن اختيار «السرية المطلقة» لمناقشة أجرة نوابنا على الخدمة التي «تطوعوا» لتقديمها للمجموعة الوطنية، هو أمر غريب، بل مستهجن، في ديمقراطية تخطو خطواتها الأولى كان ولا يزال مبدأ «الشفافية» أحد استحقاقات الثورة الشعبية التي انبثقت من رحمها. فلو كان الأمر متعلقا بقضايا تهم الأمن القومي، أو بأسرار من شأن الكشف عنها الاضرار بالمصالح العليا للوطن، لكان الأمر مفهوما ومشروعا، أما وأن الأمر يتعلق بكل بساطة بمرتبات السادة النواب وامتيازاتهم، في وقت تدعو فيه الحكومة الى «سنة بيضاء» من حيث الزيادة في الأجور، فإنه يمكن القول دون تحامل أو تجنّ «من المرسى بدينا نمقدفو»، وأننا بمثل هذا الاجراء نسير في تيار معاكس تماما لأبسط قواعد الشفافية والديمقراطية، يذكّرنا بأحد تقاليد الدكتاتورية السابقة البغيضة، التي كان يُصادَق فيها على ميزانية رئاسة الجمهورية بالإجماع.. ودون مناقشة؟ ف«السرية» و«دون مناقشة» هما وجهان لعملة واحدة، بما أن نوابنا المحترمين سيناقشون بأنفسهم رواتبهم وامتيازاتهم، بعيدا عن أعين الرأي العام دافعي الضرائب ومحاسبته! إن هذا الاجراء يمكن اعتباره بدعة سيئة، قد تعقبها بِدع أخرى مشابهة، فطريق الألف خطوة نحو نظام متخلف أو نظام ديمقراطي حقيقي، يبدأ بخطوة. فلعلم نوابنا المحترمين إن كانوا لا يعلمون في ديمقراطيات عريقة، كالديمقراطيات الاسكندنافية مثلا، فإن رواتب كل مسؤولي الدولة مهما علا أو نزل «شأنهم»، بل إن مصاريفهم اليومية، من أكل وشرب وأدوات مكتبية.. الخ المستخلصة من مال الدولة طبعا موضوعة على ذمة عموم الشعب في مكتب خاص في دفاتر محفوظة ويمكن لأي مواطن الاطلاع عليها في أي وقت، وإبداء ملاحظاته إزاءها، وحتى التقاضي إن رأى تجاوزا أو مبالغة. إن النظام الذي نريده، والذي قامت الثورة من أجله، هو نظام مفتوح وشفاف وشعبي حقا. إن مثل هذه الجلسة السرية، تقيم الدليل على أن من يمثلوننا لم يفهموا بعد مقتضيات الديمقراطية ومفاهيمها ومبادئها، وعلى أن إرث عقود من الدكتاتورية في العقول لا يزول بسرعة، فالتنديد بالماضي شيء، واقتلاعه من الأذهان شيء آخر. كما لا يفوتنا أن نلاحظ، أن من حق المواطن التونسي أيضا أن يطلع على مستوى مناقشات النواب في هذا الشأن، وجدية مقترحاتهم ومعقولية طلباتهم، ودرجة «تطوعهم» للصالح العام، ليحكم لهم أو عليهم، ولتقييمهم جماعة أو فرادى استعدادا للاستحقاقات الانتخابية القادمة.