لم ينتظر فرانسوا هولاند كثيرا حتى يثبت للفرنسيين أنّهم أحسنوا الاختيار، فقد انطلق منذ تسلّمه مفاتيح الإيليزيه نحو تحقيق «إنجازات» رمزية جنى من خلالها نجاحات معنوية لم ينلها ساركوزي في سنوات حكمه الخمس. بالرغم من أنّه سافر إلى بلجيكيا في مهمة رسمية، فإنّه خيّر أن تكون رحلته إلى هناك في القطار كأي مواطن عادي، لا لشيء إلا لأنّ البلاد تمرّ بأزمة مالية خانقة والرئيس الجديد لا يمكن أن يفوت فرصة المساهمة ولو بشكل رمزي في التخفيض من مصاريف الدولة أدرك بذلك الفرنسيون أنّهم تركوا مستقبلهم في أيدي أمينة، ووجّه هولاند بذلك رسالة مشفرة إلى الحكام الجدد في العالم العربي الذين مازالوا «يجربون» الديمقراطية حتى لا ينسوا ما دفعته الشعوب من دماء وأرواح وحتى لا يعميهم بريق السلطة أو تغريهم المراسم والبروتوكولات. وجّه هولاند بتلك الخطوة دون أن يدري صفعة لأولئك المدافعين عن مقترح الزيادة في رواتب نواب المجلس الوطني التأسيسي. وتمكّن بتصرف بسيط أن يعكس حنكة سياسية عميقة، ففي زمن الأزمة المالية لابد أن يوقف صاحب البيت ضرب الدف ولو إلى حين حتى يكون قدوة لأهل بيته بدل أن يغرق كل مسؤول صغيرا كان أم كبيرا في شره تحصيل الثروة وجمع ما يمكن أن يجمعه من الغالي والنفيس إلى أن يفارق الكرسي. كان أوّل قرار يتخذه اليساري الذي بقي رجل ظل لسنوات هو أن يخفض من راتبه ورواتب وزرائه بنسبة ثلاثين بالمائة، أما عندنا فلا يبدو أن المسؤولين يحبذون فكرة التخفيض تلك فهم يرفعون الأسعار ويرفعون مرتباتهم و»يرفعون» في مجمل ما يرفعون حرارة الشعوب معهم. الرئيس «العادي» يبدو غير عادي الآن بعد فترة وجيزة جدا من توليه السلطة، فقد قطع مع كلّ ممارسات ساركوزي الذي ما إن وصل إلى الحكم حتى رفّع راتبه بنسبة 170 بالمائة عام 2007. لم تدفع السلطة هولاند إلى أن يعيد حساباته، أو أن يستسلم لإغراءات المال والقوة، فلرئيس فرنسا الجديد «حصانة» ضدّ التمعش من ميزانية الدولية و»مناعة» ضدّ فيروسات المصلحة الخاصة. فهل يتعلم «حماة» الثورات في بلداننا شيئا من دروس هولاند التي تقدّم مجانا للحكام العرب؟