سبق أن بيّنت في مقالي الأخير الخط التحريري الذي يجب إتباعه من طرف وسائل الإعلام، خاصة التلفزة، و ما يتبع من أدوار رئيسية الآتية ذكرها الإنارة و التشخيص: تشخيص وضع البلاد يتطلب سماع نبض الشّارع، متابعة كل ما يجري في البلاد، إجراء تحقيقات وبحوث ميدانية. بذلك العمل يمكن نقل الخبر بكلّ حياد ودقة وتحليل صحةالخطاباتعن بعضها البعض بكل موضوعيّةمن خلال طرح أسئلة دقيقة على خبراء مستقلين. أما الإنارة فهي تخص الشعب والحكومة على حدّ سواء فيما يدور في كواليس السياسة وفيما يتعرّض المجتمع المدني من مشاكل وصعوبات. الإنارة تتطلب، علاوة على نقل الخبر، صناعة الخبر الذي يتماشى مع خط التحرير ومع خصوصيات المرحلة (خصوصيات هذه المرحلة هي الكرامة والشغل). على الإعلام صياغة برامج، بلغة سلسة ومبسطة، تعرف من خلالها أسس الديمقراطية، علاقة المواطن بالحاكم، علاقة الدين بالسياسة، علاقة الشغل بالاستثمار والمبادرة من طرف العاطلين عن العمل، علاقة الكرامة بالديمقراطية، وعلاقة الكرامة بالدين الإسلامي الذي يعطي لكرامة الإنسان مفهوما راقيا وشاملا وعصمة و حماية، وعزة و سيادة، واستحقاقا وجدارة. وجب أيضا التعريف بمبادئ وثوابت روح الإسلام الذي لا يتغير مع الزمن بدون الدخول في التفاصيل والأحكام المرتبطة بزمن معيّن فجوهر الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية بل قل يزيدها إشعاعا ونجاعة. بهذا المنهج الموضوعي نصل، آجلا أم عاجلا، إلى الوفاق الوطني والحوار البنّاء لكلّ أطياف المجتمع لما فيه خير لتونس وبدون أي إقصاء. لا ننسى طبعا ضرورة إعلام المواطن عن مدى تقدّم أو تأخر الحكومة في إنجازاتها وأهدافها والتعريف بتوجهات مختلف الأحزاب السياسيّة وخصال أفرادها (بكل حياد وعدل). القيام بهذا الدور يتطلب استقلالية الإعلام عن كلّ السلط، إعادة صياغة منظومة التكوين والتدريب والرسكلة في قطاع الإعلام وتفعيل نجاعتها بتدعيم الموارد المالية والمادية (أدوات وهياكل اتصال -مباشر وغير مباشر- مع كافة شرائح الشعب والمجتمع لسماع نبضه وصوته ومشاكله واقتراحاته) والبشرية المخصصة لها، وإعطائه كلّ الصّلاحيات والتشجيع الأدبي والمعنوي عوض الرقابة والضغط متزايد الأهمية بما في ذلكالعنف الجسديوالترهيب. * المراقبة: الإعلام هو قبل كلّ شيء سلطة مضادة ومراقبة لكل القوى الحيّة بالبلاد، أوّلها السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وكلّ من يريد استغلال نفوذه على حساب الشعب، وأداة إحياء للوعي والضمير عن طريق كشف كلّ الحقائق بكلّ حرفية. من المواضيع التي يجب طرحها، متابعتها ومعالجتها، خاصة من التلفزة الوسيلة الإعلامية الأكثر تأثيرا ومتابعة من المواطن، بالحوار بين فئات الشعب وأهل الاختصاص وأعضاء الحكومة والأحزاب المعارضة لحماية الديمقراطية وأهداف الثورة، أذكر خاصة: لماذا لم ينقطع بعد تيار الاعتصامات الاقتصادية وقطع الطرق والإضرابات والحال أن هذه الموجة زادت في تفاقم نسبة البطالة؟ - هل أن الإسلام يعارض الديمقراطية كما يعتقد البعض من الأحزاب الإسلامية والعلمانية على حد سواء؟ هل أن حزب النهضة يطبق فعلا المرجعية الإسلامية النيرة والوسطية كما هو مذكور في خطاباته؟ ما هو مدى تقدم النظام الأمني في اتجاه النظام الجمهوري؟ هل أن حزب النهضة والأحزاب الأخرى بدأت من الآن في الحسابات السياسوية الضيقة (أصوات الناخبين)؟ هل هنالك تقدم في استقلالية السلط عن بعضها ومراقبة كل سلطة للأخرى؟ هل أن تسمية الحكومة بالانتقالية يساعد تونس على الإقلاع الاقتصادي؟ هل أن مناصري الأحزاب يقومون بالنقد البناء لحزبهم المفضل أم إنهم يدافعون عنه بصفة عمياء (مهما كان أداؤه) حيث أن العاطفة تتغلب على العقل؟ كل موضوع يجب طرحه من زوايا مختلفة ولكل زاوية تخصص له حصة كاملة على أقل تقدير. البرامج الخاصة لكل موضوع تكون دائمة الاستمرار ما لم يقع القضاء على الخلل والمشاكل القائمة به (الموضوع). هذه المنهجية لقنوات الاتصال والإعلام تمكن القوى الحية الواعية الفاعلةوالبناءة من القيام بعملها في أحسن الظروف وتمكن من تحويل دور القوى الأخرى من دور سلبي إلى دور إيجابي. * تكريس إرادة الشعب و سيادته: الديمقراطية هي قبل كلّ شيء ممارسة وتفكير (قبل أن تكون قوانين) وكذلك هي مشاركة فعليّة للشعب في أخذ القرارات الكبرى التي تمسّ مستقبل البلاد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. عمل النخبة المثقّفة والمختصّة لوحدها ليس كافيا لاستنباط مشاريع وقوانين ذات قيمة وفاعليّة كبرى تعكس الحاجات الحقيقيّة لفئات الشعب.إذن أرى أنّه من الضّروري جعل التلفزة أداة لمشاركة فعلية للمواطن في الاختيارات الكبرى وفي المجالات الحياتية اليومية. هذه المشاركة ضرورية، بما أنّ الشّعب هو الذي أدرى بمشاكل الحياة العمليّة، حتى يكون عمل النخبة ناجعا فعليا وليس نظريا. لا لإعلام يغيب المتلقي الرئيسي وهو المشاهد ومد جسور التواصل مع المتلقي الحقيقي هو ضرورة قصوى حتى يستطيع المواطن بناء مصير البلاد. يا ليت لو أن التلفزة، أو على الأقل قناة واحدة من القنوات التونسية، تصبح ساحة و فضاءمنتدى عام يرتكز أساسا علىحرية التعبير عنالآراء ووجهات النظر بينالمواطنين والقوى السياسية، ،من دون اللجوء الىاستخدام القوة،أوضغطغير مقبولأخلاقيا. مواضيع الحوار لأخذ القرارات الصائبة والبناءة يمكن تلخيصها تحت عنوانين كبيرين: ما هي السبل لانجاز مشاريع الاستثمار في أقرب الآجال؟ ما هي السبل لتكريس «حكمالشعب بواسطة الشعبومن أجل الشعب»؟ حسب رأيي الخاص، نجاح هذا الدور يتطلب عقدا اجتماعيا يربط كل الفاعلين في الساحة السياسية حيث يلتزم الاتحاد العام التونسي للشغل بالتنازل عن حقه في المطالبة بزيادة الأجور مقابل التزام الحكومة بتكريس مبادئ الديمقراطية بدون أي تلكؤ مع تجريم كل من سعى إلى تعطيل و شل الحركة الاقتصادية. 3. إعطاء الشاب التونسي أكثر شأنا وتمثيلا ودورا في الساحة السياسيّة : المتتبّع للأحداث السياسية والاجتماعية بتونس يلاحظ جيّدا أنّ أداء الأحزاب، مهزوز وسلبي وهدّام بإتباعها السّياسة المتداولة في شتّى أنحاء العالم حيث أنّ الغاية تبرّر الوسيلة (ولو كانت هذه الأخيرة قذرة) من جهة وتغييب الشباب عن القيادة و الحال أنّ الثورة، خاصّة الشرارة الأولى للثورة، قام بها شباب تونس من جهة أخرى. المعروف أنّ مستقبل البلاد يكمن خاصة في شبابها. أكثر من يعرف متطلّبات وخلجات الشباب هو الشاب الذي ليس له رواسب الأجيال التي سبقته. فكلّما تقدّم الإنسان في العمر كلّما صعب عليه التخلص من الرواسب والعادات البالية. من بين هذه الرواسب، أذكر خاصّة مركب النقص تجاه الغرب، المتأتي من الاستعمار الغربي لبلداننا العربية وتقدمه المذهل والسريع في ميادين العلوم والتكنولوجيا، وكذلك وبالمقابل مركب التعالي والتفوّق، خاصّة من طرف النخب السياسية، تجاه شعوبها. أما شباب تونس، أو على الأقلّ معظمه، فهو يكاد يكون خاليا من هذه الرّواسب ويدعو إلى الندّية والحوار والعدل بين أطراف المجتمع وبين الدول بما هو صالح للجميع. هو يؤمن أنّ التفوّق في ميادين العلوم والتكنولوجيا، وبالتالي في شتّى ميادين الحياة، ليس حكرا على الغرب وأن التونسي إذا ما توفر لديه المناخ المناسب فهو قادر على الإبداع والابتكار والتفوّق. لهذا على الإعلام أن يبحث عن الأحزاب الفتية، يقودها شبان لا تتعدى أعمارهم خمس وأربعون سنة و تضم مستشارين ذوي الخبرة، و يعطونها نفس نسبة حضور الأحزاب الكبيرة. لن تكتمل الثورة إلا بتحرير الإعلام. إذا أراد الأعلام، العمومي أو الخاص، إنجاح المسار الديمقراطي وإظهار أيّ حزب استبدادي أو رجعي على حقيقته فما عليه إلاّ توخّي الصّدق والنجاعة في عمله والتحلّي بالحياد والموضوعية والتفكير البناء. بذلك يكسب الإعلام مصداقيته وثقة المتلقي مهما كان اتجاهه السياسي وبالتالي يجني التفوق في نسبة المتابعة من طرف المتلقي. من هنا ينطلق البناء وتنطلق إنارة الشعب عن كل الحقائق وتفعيل إرادته حتى يقع إفشال أيّ مشروع استبدادي (تحت أيّ شعار) أو رجعي. المفارقة للنجاح هي نفس المفارقة التي ذكرتها بالنسبة للأحزاب السياسية: السير على أجندة و حسابات ضيقة تفضي الى نتائج عكسية والعكس صحيح أيضا، السير بمصداقية و موضوعية بدون حسابات ضيقة تفضي بنتائج باهرة تفوق كل توقعات الحسابات الضيقة لأنّ المتلقي حر لوخاطبته بالعقل وتركت له كامل الحرّية في أن يختار ما يريد ولأنّ غالبية الشعب التونسي لا تهمّه الإيديولوجيات، الذي يهم هو الصدق تجاهه والسعي لخدمته وإسعاده. يوسف النابلي