في الجزء الأول من مقاله ركز الكاتب على الحلقة الأهمّ التي رأى أنها مفقودة في خطاب الباجي قائد السبسي الذي ألقاه بمناسبة إعلان مبادرته والمتعلقة بالمفهوم الذي تعطيه هذه المبادرة للثورة التونسية ..متسائلا هل تعتبرها فعلا ثورة . وفي خاتمة الشطر الأول من المقال توقف الكاتب عند محور هام يتعلق بالنخبة الفكرية للحزب الجديد والواقع المحلي وفي هذا الاتجاه يواصل الكتابة فيقول: إن التحدي الذي ستواجهه مبادرة الباجي قائد السبسي هو أن حزبه سيعمل -في وقت انتخابي قياسي- على بلوغ قاع المحلي بنخبة فكرية أكثر منها سياسية (مثلها في ذلك مثل النخب الفكرية الحداثية في الأحزاب الأخرى) تفتقد إلى حلقات تواصل أصيلة ضرورية في العمل الميداني السياسي، لبلوغ القرى والمدن الداخلية المتوسطة والأحياء الشعبية في المراكز الحضرية الكبرى، حيث تعمل التيارات الدينية المنافسة على ملء الفراغ الذي تركه التجمّع. وهنا لابد من الانتباه إلى أن الاستعانة بالهياكل الاجتماعية-السياسية القديمة للتجمع الدستوري الديمقراطي على المستوى المحلي، بحجة الفاعلية، سيعيد المبادرة إلى التحدي الأول الذي يتعلق بمفهوم الثورة عند أصحاب المبادرة، وبعلاقتها بتحقيق أهداف ثورة شباب تونس. ألم يتحدى راشد الغنوشي خصومه بعقد ندوته الصحافية الأخيرة في حي شعبي من أحياء العاصمة ؟ ألم تتحول بعض الأحياء الشعبية في كافة المدن التونسية إلى أماكن محررة تسيطر عليها قوى خارجة عن القانون مشاكل التحالفات القادمة خلال تقديمه لمبادرته تحدث الباجي قائد السبسي عن مبادئ وأهداف إصلاحية حداثية عامة لا يختلف عليها معظم التونسيين، بمن فيهم الشريكان الأساسيان لحزب النهضة في الحكم. و مع ذلك فإن أحد أهم التحديات أمام هذه المبادرة هو أن تضمن لنفسها حلفاء قادرين على الصمود أمام ضغط المنافسين حتى النهاية. وفي واقع الأمر بدأت الشكوك تحوم حول إمكانية النجاح في هذا المسعى حتى قبل أن تُعلن المبادرة للعموم، إذ أن أحد المشاركين النشطين في بعثها إلى الوجود عمر صحابو- غادرها، مبررا موقفه بأن المبادرة حادت عن مسارها عندما قرر صاحبها، الذي قبل الكثير من أطياف المعارضة الحداثية بقيادته الكارزمية، التحول من جامع لقوى مشتتة إلى رئيس لحزب بعينه في متناول سهام الخصوم. من الناحية العملية يعني هذا شيئين: الأول نفعي إن صح التعبير، ويتمثل في أن تحول مبادرة قائد السبسي إلى حزب يعني أن قائمة الطامحين الفعليين إلى الوصول إلى مقاليد السلطة ستتضاعف، وأن المبدأ في توزيع ذلك سيكون الحجم الحقيقي لكل حزب حسب صندوق الاقتراع، وهذا أمر عانت منه الترويكا في حد ذاتها إلى حد كبير. أما الثاني فهو أن الحزب سيضيف مرشحا آخر إلى جانب زعماء المعارضة القدامى للمراهنة عليه خلال الانتخابات المقبلة. بطبيعة الحال برر الباجي قائد السبسي قراره بالذهاب في خيار تأسيس حزب جديد بطريقة قانونية ذكية لكنها لا تخفي المشكلة الحقيقية التي تواجهها مبادرته، وقد استبق نجيب الشابي جميع المواقف موضحا بأنه سيتعامل مع هذه المبادرة من حيث أنها مجرد مبادرة حزبية. هل في جعبة قائد السبسي حل لمثل هذه المشاكل؟ وماذا لو طلب منه حلفاؤه أن يتخلى عن بعض رموز التجمع الذين سينخرطون إن عاجلا أو آجلا في هذه المبادرة؟ ثم ماذا لو اتخذت المعارضة التي خسرت الانتخابات السابقة شعار تحقيق أهداف الثورة عنوانا مركزيا لها؟ من سيكون عندها الحلفاء الحقيقيون للمبادرة؟ وهناك مشكل رابع أمام مبادرة الباجي قائد السبسي لا يقل عن السابقين شأنا، وهذا لا يمكن قياسه إلا بدرجة نجاح الترويكا في ذلك، وهو مدى قدرة المبادرة على استيعاب الطاقات السياسية الجديدة في المناطق المهمّشة وتوظيفها. ولكي تتضح هذه النقطة سأروي القصة التالية: خلال السنوات السبعين جاء أحد وزراء بورقيبة إلى سيدي بوزيد، وجلس جلسة عالم فذ ببحور السياسة، متعاليا بعلمه بخفايا الأمور وبفخامته على مستمعيه، وجعل يشرح لهم أهداف التنمية التي لا يفهمونها، فبدا كمن استحق هو على فهمه لها منصب الوزير. لكن ذلك على رواية أهل البلاد- لم يعجب بعض أعيان المنطقة فطلب أحد أغنيائهم الكلمة وتوجه للوزير بالسؤال التالي: هل يمكنك أن تدلني على المعهد الذي يتخرج منه الشبان وزراء، فأنا بمقدوري أن أدفع ثمن دراسة ابني الذي أتمنى أن يصبح هو أيضا وزيرا مثلك ! في هذا الإطار، ومن وجهة نظر سوسيولوجية، تبدو مبادرة الباجي قائد السبسي، التي تدافعت نحوها أعداد كبيرة من الإطارات الوطنية المتمركزة في العاصمة والمنخرطة بقوة في مجموعات مهنية وسياسية تتمتع بشبكات نفوذ قوية، كما لو أنها مسرحية وزعت أدوارها على الممثلين قبل أن تُكتب، وهذا عكس ما يجري تحديدا عند حزبي النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية اللذين استقطبا كوادر تونسية نكرة من أوساط اجتماعية متوسطة أو فقيرة حتى وإن نقصتهم الخبرة التي حرمت منها الدواخل طويلا لتصبح حجة عليها. إن مبادرة الباجي قائد السبسي على غاية كبيرة من الأهمية بالنسبة لمستقبل تونس السياسي-الثقافي، فهل ستُعطي لهذه التحديات حق قدرها وهل ستوجد لها الحلول المناسبة؟ بقلم: د.المولدي الأحمر*