لم يفلح طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني في اخفاء تأثره الواضح وهو يعلن استقالته بعد عشر سنوات قضاها في منصبه.. ولم يحاول اخفاء دمعة غلبته وهو يتلو خطبته ويردد كلمات الاعتذار الموجهة الى الشعب البريطاني عن أي خطإ قد يكون ارتكبه.. وقد بدا بلير الذي طالما اراد لنفسه ان يظهر بمظهر القوي على درجة من الضعف والانهيار وهو يواجه لحظات صعبة في مسيرته السياسية. صحيح ان الاقدام على الاستقالة والتخلي عن الحكم امر صعب بالنسبة لاي مسؤول خاصة عندما يتعلق الامر بسياسي في حجم وموقع رئيس الوزراء البريطاني الذي لا يزال بامكانه تقديم الكثير على الساحة السياسية الا ان الحقيقة ايضا ان الظروف والملابسات التي يقدم فيها بلير استقالته لا يمكن باي حال من الاحوال ان تهون عليه هذه الخطوة الاستباقية التي تفرضها مصالح حزبية. وايا كانت انجازات بلير الوطنية ونجاحاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها ولاسيما المصالحة التاريخية التي حققها في ايرلندا بين الكاثوليك والبروتستانت فان شبح العراق وما آل اليه وشبح اسلحة الدمار الوهمية وشبح الحرب الاسرائيلية على لبنان ستظل تلاحقه وتتعقبه حيثما توجه.. فطريق الولاء المطلق الذي اختاره بلير في تأييده للسياسة الخارجية الامريكية وانفصاله عن الصف الاوروبي لم يكن من دون ثمن سياسي دائما...
واذا كان بلير قد نجا حتى الامس من المحاسبة والمحاكمة فان ذلك قد لا يعني ان التاريخ لن يقول كلمته بشان حصيلة بلير خلال السنوات العشر في داونينغ ستريت وربما شعر الذين تابعوا بلير وهو يلقي خطابه ولو للحظات انه سيذهب الى اكثر مما اعترف به.. وربما كان بلير يخشى الوقوع في ذلك فقد كانت كلماته ونغمة اعترافه بالخطا اقرب الى الاقرار الضمني باقترافه ذنبا اكبر الا انه لم يكن له ما يكفي من الشجاعة للمضي قدما والكشف عما يدور بداخله من افكار في تلك اللحظات.. ثم ان علاقة رئيس الوزراء البريطاني بحليفه الامريكي جورج بوش تحتم عليه على الاقل الآن تجنيبه المزيد من الاحراجات والتعقيدات في هذه المرحلة، اذ يكفي بوش الفراغ الذي سيتركه بلير خلال الاشهر المتبقية له في البيت الابيض خاصة اذا ما قرر خوض مغامرة عسكرية جديدة في المنطقة ضد ايران..
لا احد يدري ان كان بلير قد اطلع على ما نشرته بالامس الصحف البريطانية عن مسيرته المنتهية وما رافقها من صور كاريكاتورية هازئة ولكن الاكيد ان بلير لم يكن يتمنى ان يغادر على وقع تلك الصور التي طوقته باخبار العراق ودم العراق الذي يلوث يديه...
ستة اسابيع اذن ستفصل بلير عن موعد الاستقالة المرتقب نهاية الشهر القادم، ولئن لم يكشف بلير عن أي مشاريع مستقبلية فان الارجح انه سيتوخى نفس طريق الرئيس الامريكي السابق بيل كلينتون في اتجاه ما يمكن تسميته بديبلوماسية المحاضرات التي بات يلجأ اليها الكثير من المسؤولين والديبلوماسيين بعد انتهاء مهامهم نظرا لما توفره لاصحابها من فرص السفر عبر مختلف انحاء العالم وما يمكن ان تدره عليهم من اموال ومكاسب، ولعل بلير يقرر حينها ان يعود للاعتراف بما اقترفه من خطإ ايضا في حق العراق وفي حق شعبه عندما اختار الولاء المطلق لصديقه الرئيس الامريكي وتغليب منطق الحرب في العراق متجاهلا بذلك موقف الراي العام البريطاني الرافض للخيار العسكري ومعه اصوات النواب البريطانيين ومستشاريه وحتى وزرائه الذين عارضوا الحرب...
لم يكن قرار استقالة رئيس الوزراء البريطاني حدثا مفاجا او غير متوقع فقد كان الامر محسوما منذ فترة الا ان الجديد في هذا القرار انه ارتبط بتحديد موعد الاستقالة التي شاء بلير ان يجعل منها حدثا لم يكن ليخلو من الضجة المفتعلة في احيان كثيرة.. فقد كان بامكان رئيس الوزراء البريطاني اعلان الموعد انطلاقا من داونينغ ستريت ولكنه قرر ان يعود الى دائرته الانتخابية سيدجرفيلد التي كانت شهدت قبل عشر سنوات انطلاق مسيرته السياسية لاعلان قراره.. ولعل بلير كان يتوقع ان يجد نفس الحرارة التي وجدها في 1997لدى الناخبين الذين رأوا فيه آنذاك الوجه الجديد لقيادة حزب العمال مطلع القرن الواحد والعشرين، الا ان ما وجده بلير بالامس لم يكن كذلك، ولا شك ان نظرة عاجلة عما كشفته الصحف البريطانية عن لحظات التوديع التي عاشها من شانها ان تكشف الكثير عما خلفته سنوات حكم بلير في نفوس جزء لا يستهان به من الراي العام البريطاني الذي بات يستعجل رحيل بلير قبل موعد الانتخابات المرتقبة خلال سنتين.
ولا شك ان حسابات انتخابية دقيقة شاءت ان يحل وزير الخزانة غولدون براون محل بلير في محاولة مدروسة لاصلاح ما يمكن اصلاحه واستخلاص الدروس الممكنة خلال الفترة المتبقية قبل ذلك الموعد، ويكفي التذكير بان قرار بلير الاستقالة جاء بعد خمسة ايام فقط على الصفعة القوية التي تلقاها في الانتخابات المحلية التي مني بها حزب العمال بما يؤكد نتائج استطلاعات الراي بشأن التدهور الحاصل في شعبية الحزب وزعيمه وبما يؤشر الى ما يمكن ان ينتظر حزب العمال اذا ما تمسك بلير بموقعه.. ولعل الايام القليلة القادمة من شانها ان تكشف مدى استعداد غولدون براون خليفة بلير في استخلاص دروس حرب العراق في مواجهة إرث سلفه..