التعليم محتوياته وطرقه، موضوع خلافي بامتياز، هذا ما لاحظه أرسطو منذ خمسة وعشرين قرنا، ولا زال حكمه هذا صحيحا.. فمن ينظر بعين الرّيبة لما كتب من تقييم ونقد حول مشروع وزارة التعليم العالي والبحث ويجنّد قلمه لمدح المشروع والذبّ عنه بإبراز مناقبه فهو يسيء فهم جوهر الموضوع، وهذا أبسط ما يمكن أن يقال فيه لو سلّمنا أنه ينطلق من حسن نيّة. فنحن في مثل هذا الوضع لسنا في حاجة إلى إيتيقا اقتناع بل إلى إيتيقا مسؤولية. وتمثل القوانين أهمّ شيء في وجودنا الفردي والجماعي فهي كما كتب المفكّر الأميركي دوركين تجعل منّا موظّفين وأصحاب كفاءات وأزواجا ومالكين وباختصار لا احد في مأمن من طائلته ولا أحد يمكن أن يستغني عنه. وإن صياغة هذه القوانين في البلدان المتقدمة تتطلب عادة استشارة واسعة مع كل المعنيين ولا سيما ممثلي الجامعيين، ولقد دامت هذه الاستشارة ،على سبيل المثال،خمس سنوات في البلدان الأوروبية. ولأنّه على هذه الدرجة من الأهمية فإنّ البعض يسمه بصفة الألوهية. ولأن البشر بعيدون عن الكمال فلا بدّ أن يحظى تشريع القوانين بأكثر أسباب التّريث والحكمة . ومن هذا المنطلق فلا يسعنا إلاّ مباركة تقديم المجلس الاقتصادي والاجتماعي ملاحظاته على مشروع الوزارة وكذلك الاتحاد العام التونسي للشغل ممثلا في الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي. كذلك نثمّن إرجاء مجلس النواب المصادقة عليه وإحالته على اللجان لمزيد المراجعة. فالأمر الطبيعي في مثل هذا الوضع هو التريث لأنّ ما سيقرّر سيعيد نحت ملامح منظومة التعليم العالي من حيث المناهج والمسالك ونظام الشهائد وطرق تسيير المؤسسات وهيكلتها وتقسيم أدوار المتدخلين ومن حيث التأثير على ظروف العمل وأداء المنظومة ككل بحثا وتدريسا، وربما سيتعلق ذلك بعدّة أجيال لاحقة. وعلى هذا الأساس فإنّ الوضع لا بدّ أن يتمّ في فضاء عمومي. إنّ شروع بعض الجامعيين في الإدلاء بوجهات نظرهم حول مشروع القانون الإطاري لا يعبّر عن أزمة بل يعبّر عن مسار صحّيّ لأنّهم بهذا الفعل يلعبون أدوارهم كمثقفين في هذا الفضاء كجبر لضرر أصابهم بسبب أنّ وزارة الإشراف حرمتهم من القيام بدورهم داخل المؤسسة باعتبارها لم تعمّم الاستشارة لإنضاج هذا المشروع في صلب إطار البحث والتدريس. ويساهم إدلاؤهم بآرائهم في عدم تحول الجامعة إلى ساحة صراع سياسي لأنه من واجباتنا أن نتركها فضاء للنشاط العلمي والتعليمي. وبما أن المصلحة العلمية والتعليمية خاضعة دوما إلى مصلحة عمليّة سياسية واقتصادية وبما أنّ حياد العلماء شعار إيديولوجي متهافت، فإن التعبير عن الاختيارات العملية لا بدّ أن يتمّ بكل جرأة في الفضاء العمومي الذي تمثل وسائل الإعلام أهمّ مقوّماته. ولأن القرارات لا تتخذ في هذه الوسائل فإنها تساهم على الأقلّ في تهيئة الأرضية لتكوّن ديمقراطي للإرادة فالقرارات في النظم الديمقراطية لا تتّخذ بالإجماع والتصفيق والهتاف بل بمسارات إجرائية منظمة تقوم على التشاور والتداول والتوافق. وانطلاقا من الاعتبارات السابقة فإني بصفتي مدرسا باحثا معنيّ عن كثب بمشروع هذا القانون التوجيهي، لذا أودّ تقديم بعض الملاحظات التي قد لا تكون ذات صبغة تشريعية تقنية لأن هذا يبقى من مشمولات أهل الاختصاص ولكنها تهيئ لاتخاذ التدابير الصائبة بالنسبة للمصلحة العامة: - تقاس جدية مشروع القانون الجديد بمدى قيامه على مراجعة لوضع التعليم حاليا نصوصا ووقائع، فالتشخيص الدقيق للوضع لا يقلّ أهمية عن القرارات المتمثلة في صياغة القوانين والأوامر والمناشير. فهذه الأخيرة لا تعمل لوحدها كما أنها لا تمتلك خاصية سحرية للتغيير. وعلى هذا الأساس يجدر التنبيه إلى أنه لم يتمّ إنجاز دراسات لتشخيص الوضع في التعليم العالي والبحث العلمي رغم أن الجميع يتحدّث عن التدهور المادي والمعنوي للجامعيين طلبة وأساتذة، فلا أحد اليوم يستطيع أن يتحمّس في الدّفاع عن تحسن جملي لمستوى الطالب رغم تطوّر نسب النّجاح التي فقدت قيمتها كمؤشّر على تقدّم التعليم. ولا أحد يمكنه اليوم أن يدافع على القول بأنّ إطار التدريس والتأطير في الجامعة مؤهّل، نحن نعمل في جامعة نصف مدرسيها تقريبا من طلبة متعاقدين وأساتذة تعليم ثانوي ملحقين وضعهم الوقتي مؤبّد وهم مهمّشون، فهل أن القانون الجديد سيغيّر من الوضع؟ - نحن نعمل في ظروف لا يتمتّع فيها المدرسون الباحثون بالكثير من الضروريات المكتبية والرقمية التي يقتضيها البحث، وهم يشتركون في هذا الوضع غير المقبول مع طلبتهم.. فرغم التكاثر غير الضروري للجامعات فإننا لا نتمتّع مثلا بمكتبة جامعة للاختصاصات بل إننا لا نتوفّر على أيّ معلومة رقمية ممركزة عن وجود الكتاب هنا أو هناك، فكيف سينجح نظام "إمد" في وضع مثل هذا فهل أن حركة الطلبة كافية لإضفاء المرونة والنجاعة على التعليم العالي؟ - نحن نعمل في ظلّ وضع مهنيّ صعب، ومشروع القانون الجديد عندما لا ينبني على قراءة تقييمية للوضع الحالي، فلن يكون سوى عملية هروب من واقع شاهد إلى ممكن غائب. ولكن الأكيد أن الأطراف الفاعلة في الواقع الحالي هي نفسها الفاعلة في الواقع الممكن الذي يهيئ إليه المشروع.. فبوادر نجاح أو فشل كل مشروع، تظهر منذ الحاضر، ويبدو أن الوزارة وضعت كلّ رهاناتها في البعد التقني فقط من خلال العمل على تمرير القانون والمصادقة عليه بسرعة ومن ثمة تحويله إلى أداة تنظيمية إلزاميّة، والحال أنّ القوانين التي تحوز على موافقة المعنيين، تكتسي صبغة المشروعية وتحصل من ثمة على قوّة مضافة في التطبيق، أمّا القوانين والتراتيب التي تكون مسلّطة، فهي تبقى محلّ تلكؤ ومراوغة.. وعلى سبيل المثال، ما هي المؤسسات التعليمية التي يدرس فيها الطلبة فعلا جميع أسابيع السداسي؟ وهل سيحدّ القانون الجديد من الغياب الجماعي للطلبة؟ وهل سيقوم على إطار تدريس مؤهل، بل هل يوفر الفضاءات الضرورية للتعليم والبحث والتأطير من قاعات ملائمة للتدريس وغير مكتظة، ومكاتب للأساتذة ومكتبات تتوفر على أدوات عمل ملائمة ومخابر للبحث، يجعل جامعاتنا تدخل في تنافس فعلي مع مثيلاتها في العالم المحيط بنا والمنفتح علينا؟ - لأن القوانين هي التي تغير نمط حياتنا بعمق، فهي لن تنجح في ذلك إن كان سنّها لا يراعي سوى البعد التقني، أي لا يعير للغايات والرهانات الأهمية التي تليق بها. وهذا في تقديري التوجه الذي طبع ملاحظات المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وملاحظات الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي، اللّذين نبّها إلى ضرورة التأكيد في مشروع القانون، على "الوظيفة الإنسانية للجامعة"، وعلى "إسهامها في الفكر الإنساني"، وعلى استقلالية الجامعة و"أهمية الحريات الأكاديمية وحماية الحق النقابي في الجامعة، بالإضافة إلى "تكريس مبدأ الانتخاب عند اختيار رئيس الجامعة والنائبين".. كما تمت التوصية باعتماد نفس المبدأ بالنسبة للعمداء والمديرين ورؤساء الأقسام، ويتمسك الطرف النقابي بضرورة استرجاع مجالس الجامعات لاختصاصاتها في المجال العلمي والمجال الإداري والمالي ويدعو إلى اعتماد مبدأ المراقبة المالية اللاّحقة". ويرى المجلس أن "تمويل الجامعات يتأتى رئيسيا من ميزانية الدولة ".. هذه الملاحظات دقيقة، لكن وجاهتها تتمثل في أنّ أغلبها انطلق من معقولية تجعل من قوّة الحجّة سندها الجوهريّ، وما القيم التي مثلت محتوى الملاحظات، من حريات أكاديمية واستقلالية للجامعة وتمثيلية ديمقراطية لهياكل الإشراف والتسيير، إلا الشروط الدّنيا والضرورية لجامعة تساهم في تطور المجتمع نحو أفضل ما يسمح به. - كتب كانط منذ القرن الثامن عشر بأن "الإنسان لا يكون إنسانا إلاّ بواسطة التعليم وهو لا شيء يزيد عمّا صنع منه التعليم "، لذلك علينا جميعا أن نضع هذا السؤال نصب أعيننا عندما نفكر في مصير تعليمنا: أيّ إنسان تونسي نريد أن نصنع بهذه التشريعات الجديدة؟ قد يلاحظ أنّ هذا السؤال مغرق في المثالية والتجريد، ولكن هذه الملاحظة لا تحطّ من قيمته ولا من ضرورة طرحه على المشرّع والمدرّس والمسؤول. إن مثل هذا السؤال يرفع الأعناق إلى مصلحة عامة يفترض أن نكون جميعا في خدمتها.