إذا رمنا تبيّن الفوارق بين القانون الحالي للتعليم العالي والبحث العلمي (الصادر في 28 جويلية 1989) ومشروع القانون الجديد المقترح فإنّه لابدّ من تركيز المقارنة على مسألة الأهداف الأساسيّة المعلنة في النظام الحالي وفي النظام الجديد، ولاشكّ في أنّ تطوّر الأهداف يفسّر إلى حدّ كبير الضرورة القائمة وراء إعداد المشروع الجديد. والمدخل إلى النظر في هذه الأهداف يستوجب بالضرورة الوقوف عند البعد الإصطلاحي والمفهومي الجديد من جهة والمنظومة القائمة وراء هذه الشبكة المتجدّدة الجامعة بين هذه العناصر من جهة ثانية. وفي هذا الإطار نسجّل ظهور مفاهيم ستولّد مضامين مستأنفة، هي في صلة وثيقة بنمط المجتمع الذي تتفاعل معه المنظومة التعليميّة ببلادنا بشكل عام ومنظومة التعليم العالي والبحث العلمي عندنا بشكل خاص . فيذكر النصّ الجديد المقترح : مجتمع المعرفة، والاقتصاد القائم على المعرفة، ودعم التشغيليّة، وقيم المواطنة، إلى جانب الاستفادة من تقدّم الفكر الإنساني، والتفاعل مع الحضارات الإنسانيّة ... وتنتظم كلّ هذه المدلولات في نظرنا في شبكتين من العلامات الهامّة، شبكة محليّة تسعى إلى جعل التعليم العالي والبحث العلمي يسهم مباشرة في إنشاء مسار لمجتمعنا هو مسار مجتمع المعرفة، وهو نمط مجتمعي تتحوّل فيه كذلك المعرفة إلى مؤشّر للاقتصاد المؤمّل، وينخرط كلّ ذلك في شبكة أوسع ومدارها منفتح على الفكر الإنساني والتفاعل مع الحضارات الإنسانيّة . ولعلّ استقامة المعادلة بين البعدين والتكامل المرجوّ بين الوجهين يكمن في جعل تعليمنا العالي ينمّي عندنا قيم المواطنة ويجعلنا ننخرط في الحداثة في آن. إنّ التعليم العالي بهذا المفهوم الثنائي المتكامل لم يتنكّر لبعده الأصلي والهام المتمثّل في التكوين وصقل المهارات من جهة، والبحث العلمي وتوظيفه لمقتضيات التنمية من جهة ثانية، ولكنّه صار إلى جانب ذلك يستوجب تحمّل مسؤوليّات أوسع استوجبها الوضع الجديد الذي أقدمت عليه البشريّة مع مطلع الألفيّة الجديدة . فلا مكان اليوم لتعليم لا يدعم التشغيليّة، ولا يسهم في نجاح مسار الاقتصاد القائم على المعرفة، ولا سبيل إلى النظر في المنظومة التعليميّة داخل الحدود الضيّقة في عالم سقطت فيه جغرافية الحدود .فنحن ننتمي إلى فضاء معرفي متوسّطي واسع يمكن أن تكون الشراكة بين بلدان ضفّتيه إيجابيّة ومفيدة لكلّ الأطراف، ولكن لا وجه للنجاح إلاّ إذا وضعْنا تعليمنا العالي في مدار المواصفات الدوليّة المعتمدة، والتي تقرّ التقييم والجودة، وليس من باب الصدفة أن أفردها النصّ المقترح الجديد بالعنوان الخامس، وهو يعتبر من أهمّ الإضافات في إطار المقارنة مع قانون 1989 الحالي. فالمنظومة الجامعة بين هذه الآليات الجديدة تسمح بتحقيق الأهداف التي رسمها ا لقانون الجديد لأنّ مجتمع المعرفة ودعم التشغيليّة يفرضان توظيف آليّات تعتمد على التقييم في ضوء مؤشّر هام هو البحث عن الجودة والتي صارت قابلة للتقييس بالاستناد إلى ضمان الجودة والاعتماد ضمن دوريّة متابعة مدقّقة. ويخضع هذا المسار إلى بعد تنافسيّ حتميّ في منطقتنا المتوسّطيّة بالأساس، فوجب تطوّر المرجعيّة بالرجوع إلى المقاييس الدوليّة المعتمدة في تحديد معايير الجودة حتّى نضمن لتعليمنا الجامعي المسلك الصحيح لتحقيق أهدافه المعلنة في الجمع بين تجذير حسّ المواطنة والانخراط في الحداثة في آن. ولاشكّ في أنّ حجر الزاوية في هذه المنظومة الجديدة يتمثّل في الانخراط في نظام " أمد" والذي بدأت آثاره تظهر تباعا، فقد صار الإقبال من الطلبة على الإجازات التطبيقيّة يضاهي، بل يتجاوز في عديد الاختصاصات، الإقبال على الإجازات الأساسيّة، وفي ذلك دعم صريح للتشغيليّة، ثمّ إنّ التكوين في مستوى الإجازة سيفتح آفاقا في التعليم الجامعي والبحث في مستوى الماجستير العلمي والمهني والدكتوراه في الاختصاص، وفي ذلك تركيز لثوابت مجتمع المعرفة والاقتصاد القائم على المعرفة. ويحتاج النجاح في تحقيق هذه الأهداف إلى تكاثف كلّ الجهود لجعل التعليم العالي من جهة والبحث العلمي من جهة ثانية يرتقيان إلى مستوى المنافسة تبعا لنظم التقييم العلميّة والموضوعيّة حتّى يسهم تعليمنا بشكل فعّال في النقلة النوعيّة المجتمعيّة المرجوّة.