بقلم: د. أحمد الكسيبي * - " يا بلدي فيكي حاجة محيراني.. نزرع لقمح في سنين.. يطلع القرع في ثواني..." بيرم التونسي إن مظاهر التخلف التي شاهدناها عند "الثورة" وبعدها والتي عرفتها بلادنا وأصبحنا نشاهدها يوميا: "الانتحار وحرق ونهب حوالي مائتي مدرسة وحوالي أربعين مكتبة عامة والأوساخ المتراكمة وتكفير المسلمين والعنف في المساجد والعنف الجسدي واللفظي..." ومن خلالها برزت سمات المجتمعات العربية الاسلامية التي لم تتخلص بعد من أعراض الانحطاط والتناقضات أو الثنائيات التي تعاني منها (طبقات وجهات متيسرة وطبقات وجهات محرومة...) إن التناقض الأول الذي لا بد من معالجته هو تكلس العقليات المتبلدة الذي يتمظهر في التصادم بين الجهل بالدين والدنيا والعقليات والممارسات البغيضة من جهة وبين حضارة الإسلام التي تدعو إلى السلوكيات الحضارية أولها النداء للسلام والقراءة الواعية المفيدة التي تثري العقل وتغذي الفكر أساس التنمية ومحور هذا المقال. فالقراءة مأمور بها شرعاً من خلال الإيذان ببداية الوحي قائلاً لهُ: اقرأ؛ وكرر عليه الدعوة ثلاث مرات كان الأمر بالقراءة، فأوَّل خطاب وُجِّهَ إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان أمرًا بالقراءة، لكن الكل يهتم بالعبادات ودونها وأغلب المسلمين لا يولوها اهتماما بالغا وهذا بيّن حيث أكبر نسب الأمية موجودة في بلاد الإسلام، فبالرغم من أن القراءة تحتل مكان الصدارة في حضارتنا لتوعية الإنسان وزيادة معارفه وإدراكه للعالم الذي حوله ولدينه ودنياه، نجد العقليات الملوثة تعربد بمفاهيمها التكفيرية وطبائعها الغرائزية، التي تؤدي الى ثقافة التحريم والتخوين، بإصدار فتاوى بقتل المسلمين واستباحة النفس البشرية وانتهاك الحقوق والأعراض وتكفير العقل والإبداعات الفنية والعلمية والتبعية التامة للغرب... والإسلام يتميز عن غيره من الديانات بالدعوة للكتابة والعلم والاتصال بحضارات أخرى والاطلاع عليها، فحين طبقت تعاليم الدين جمعت حضارتنا كتبًا من مصادرها من جميع أنحاء العالم. فاستطاع العرب إقامة حضارة عظيمة، انتشلوا بها من بحور الظلام والتخلُّف، إلى شُطآن العلوم والمعارف، وعند توقَّف المسلمين عن القراءة والاطلاع أصبحت بلادنا بعد 7 قرون من الانحطاط مجالا للضعف والعجز ومرتعا لكل القوى الغازية. ومعلوم أن الأمة التي لا تقرأ تموت قبل أوانها. أمَّا في العصر الحديث، وبعد فترة الاستعمار لا يختلف عاقلان في أن تونس كانت لها الصدارة في الاعتماد على القراءة كعامل أساسي للتنمية لتفقه نخبها وطلائعها بتعاليم الدين ومقتضيات الدنيا ولهذا عولت منذ الاستقلال على الاستثمار في رأسمالها البشري بالمراهنة على القراءة (370 مكتبة) والتربية والثقافة (270 دار ثقافة) بصفة أعم ووضعت كل الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية في خدمة العملية التعليمية وحدد الهدف من هذه السياسة النهوض بكل المكونات التنموية في البلاد. صحيح أن نسبة الأمية في تونس انخفضت كثيراً مقارنة مع أشقائها العرب، لكن المتأمل بدقة بعد نصف قرن على الاستقلال يلاحظ فشل السياسة التعليمية، التي أصبحت منذ عقدين تبحث عن الكم على حساب الكيف وتساس بشعارات مبنية على الأرقام (أكثر من مليوني تلميذ، نصف مليون طالب، مئات آلاف المتخرجين...) كما يلاحظ مفارقات عجيبة فكلما تزداد نسب التعليم والتمدرس تزداد أيضاً نسب الجهل والأمية!!! لأن تقلص الأمية لا يكتفي بالمعنى المحدود للأمية الأبجدية أوالالفبائية أي غياب تام لمهارات القراءة والكتابة بل تشمل أبعادا جديدة لغياب العلم ومستويات عدة لضمور المعارف والتصورات الصحيحة وذلك لأسباب كثيرة منها: ففي سياق ثورة المعلومات والمعارف وإذا ارتأينا تحليل المعنى الحديث لمفهوم الأمية فإننا نكتشف تعقد ظاهرة الجهل وتشعب مسالك الأمية، فالأمية أصبحت أنواعا من الأميات: أمية معلوماتية وأمية مدنية وحضارية وهي خطيرة وتعني الجهل بمسائل تهم البلاد وغياب المعطيات الأساسية عن الشؤون المدنية ومنها بالخصوص الأمية الوظيفية التي تعني الصعوبة على فهم ما تحتويه التعليمات المطبوعات والاستمارات الحكومية المستعملة في الحياة اليومية، وخير مثال على ذلك عدم القدرة على القيام بمطلب أو شكوى كتابيا وهذه الأمية تسمى أيضا الأمية الراجعة التي يعاني منها أغلب الشباب المعطل الذي نسي ما تعلمه في المدرسة فالقراءة التي لا تصدر بالتهجئة لا تعتبر قراءةً وبعيدة كل البعد عن الطلاقة والبلاغة المطلوبة من المتعلمين.. والكتابة التي تكتب بأحرف هجينة، وبكلمات وعبارات خاطئة ليست كتابة.. وأتعس الأميات تلك التي وصل الجهل فيها الى المستويات العليا من التعليم، أميّون جامعيون: أفواج من الطلاب والطالبات الذين يجهلون القراءة والمطالعة والكتابة غير قادرين على كتابة سطور قليلة بطريقة سليمة. وقد وصل تعبيرات الجهل الى اعلى هرم السلطة فنكتشف يوميا وزراء وسياسيين يجهلون معطيات بسيطة عن بلدهم ويجهلون معطيات بديهية عن مجال عملهم، والسياق نفسه نجد في مجال التربية الجهل التام للمكتبات المدرسية ودورها الأساسي في المؤسّسات التربوية وما تعيين وزارة التربية منتدبين جددا من غير المختصّين إلا جهل للتخصصات والمؤهلات في التعليم العالي التي تمكن خريجي المعاهد العليا للمكتبات والتوثيق والمعلومات بإنشاء مكتبات متعددة الوسائل ووحدات لمصادر التعلم وكما يتولى المتخرجون بالتدريس في القطاع التعليمي لمادتي المكتبة والبحث عن المعلومات ومواد رفع أمية المعلومات على غرار البلاد المتقدمة وأغلب البلدان العربية. وهذه الدراسات الدورية للبيزا تبين لنا مدى الترابط بين الأمم التي تحصل أبناؤها على معدلات عالية في القراءة والمطالعة وبين رقيها وتقدمها فالعلاقة واضحة بين المطالعة والرقي ونتبين ذلك جليا من خلال البلاد المتقدمة التي تحتل أعلى المراتب في مؤشر التنمية الإنسانية الذي أعطى المكانة الأولى للبلدان الأكثر تقدما ومثال ذلك أن بعض بلدان الشمال مثل "فنلندا" وبعض بلدان الشرق آسيوية "التنينات" مثل كوريا الجنوبية وهونغ كونغ هذه البلاد نفسها نجدها قد تحصلت في نفس الوقت على نصيب الأسد في مجالات القراءة والمطالعة لدى ناشئتها حسب دراسات البيزا. إن محاولة تكريس عادات جديدة تجعل من القراءة والاطلاع على المستجدات وتجارب الآخرين ممارسة يومية عند كل الفئات الاجتماعية وخصوصا الفئات الناشئة والنشيطة ليست محاولة يقتصر أداؤها من الناحية الوظيفية على الفاعلين في مجالات التدريس والمعلومات والمعلوماتية والمثقفون المعنيون بقطاع القراءة والمطالعة فحسب بل تعتبر فرضا إنمائيا وحضاريا يتطلّب منا وضعه في دستور للبلاد لتقليص مظاهر الجهل والانحطاط الفكري، وتحميل كل المؤسسات (الأسرة ، المدرسة، المكتبات، الجامعة...) والسلط مسؤوليتها لتجذير عادات القراءة والمطالعة للوصول لمجتمعات المعرفة والمعلومات (يمكن الاستئناس بعديد الدساتير التي وضعت المطالعة كفرض على المؤسسات والسلط تنفيذه في البلاد الصاعدة مثل الهند و البرازيل...) إن الابتعاد عن الكتاب وهو أهم وسائل التثقيف وفقدان ممارسات وسلوكيات القراءة والمطالعة ليست بقضية عادية بل هي أخطر مسألة من منظور استشراف المستقبل لأن بناء مجتمع حداثي ديمقراطي رهين بوجود مجتمع قارئ مثقف محصن بالمعرفة والعلم والانفتاح على العالم. جامعي ورئيس سابق للجمعية التونسية للمكتبيين