بقلم : الأستاذ إبراهيم الشايبي - يولد كل يوم ألوف البشر ويموت آخرون فلا تفرح الدُنيا لمقدمهم ولا تحزن لرحيلهم، أمّا العالم الذي يفيد الناس بعلمه والذي ينفع البشرية بحكمته، فهو وحده الذي تهتز أركان المعمورة لفقده وتتزعزع أسسها لغيابه". هكذا قال الحكماء في وفاة العلماء، وبوفاة فضيلة الشيخ كمال الدين جعيط، فقدنا رجلاً نذر حياته لخدمة الإسلام، وفي سبيله أفنى عمره، ولئن اشتعل رأسه شيبا ورق عظمه وأصابه ما أصابه فإنّ روح العطاء لدينه ووطنه لم تكن تعرف للخريف سبيلا، وفقد أمثال الشيخ جعيط في هذا الوقت بالذات هو مصيبة على بلادنا برمّتها، في زمن أضحى التطفل فيه على الدين وعلومه من الذين يبخسونه قدره هواية مفضلة وتجارة لا تعرف سوقها كسادا. ففي الوقت الذي يطلّ علينا فيه كل يوم دعاة لا حظ لهم في علوم الشرع ولا نصيب، تفقد أرض الزيتونة والقيروان شيوخها الأفذاذ واحداً تلو الآخر، وقد رحل عنّا الشيخ عبد الرحمان الحفيان، والشيخ الخطوي دغمان، والشيخ محمد علي الدلاعي، والشيخ الحبيب بلخوجة... و كان السبت 09 صفر 1434 هجرية الموافق ل 22 ديسمبر 2012 ميلادية، يوم رحيل شيخنا كمال الدين جعيط. وفي قول المصطفى صلّى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِعِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا »(1)، فيه تشخيص لحال الأمّة التي يغيب فيها أهل العلم. والشيخ كمال الدين جعيط هوسليل أسرة علم، ففي العلم أبصر النور، وبنورالعلم عاش، وبالتنوير ختم حياته، فالتنوير كان آخر ما ختم به فقيدنا الجليل حياته الحافلة بالعطاء. وقد انطلقتُ قبيل وفاة الشيخ بأسبوع بكتابة مقال حول الهبة النفيسة التي وهبها فضيلته لدارالكتب الوطنية والمتمثلة في التبرّع بكامل خزانة كتبه لفائدة الدار ليعمّ بها النفع طلبة العلم والباحثين، صدقة جارية يبتغي بها وجه الله سبحانه وتعالى، وهي كنز ثمين لا يقدّر قيمته إلاّ معاشرو الكتب لما تضمّه مكتبته من كتب قيّمة ومخطوطات نادرة، تختزل جهدا عظيما تمتدُّ جذوره لثلاثة أجيال متعاقبة.. فقد كوّن تلك الثروة المعرفية جدّه الشيخ والوزير الأكبر يوسف جعيط، وواصل تكوينها وإثرائها والده شيخ الإسلام محمد العزيز جعيط، وواصل الشيخ كمال الدين ما قاما به بحفظ ذلك الرصيد وإثرائه، والشيء من مأتاه لا يُستغرب. قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"(2). ولمّا رأيت أن هذا الحدث (التبرّع بالمكتبة) لم يأخذ حظّه إعلاميا باستثناء إيراده كخبر مقتضب لا تعليق عليه في إحدى الصحف، شرعتُ في كتابة مقال موسّع في الغرض، لكن مشيئة الله اقتضت أن أنصرف إلى الكتابة في نعي شيخنا العلاّمة كمال الدين جعيط، الرجل الذي وهبه الله تعالى من سعة العلم ورحابة الصدر ودماثة الخلق ولطف المعاملة ما مكّنه من أسرقلوب الناس له حبّا ووفاء وتقديرا. وكما هو شأن خطبه المنبرية، كانت فتاويه منصبّة على خدمة الإنسانية وفقا لقضاياها المعاصرة، ومن أبرزها فتوى سماحته بتاريخ 21 أكتوبر 2003 التي أباح فيها أخذ الأعضاء البشرية وزرعها، ثمّ تلتها فتوى صريحة ومُفصّلة خاصة بحالات نقل الأعضاء وأحكامه بتاريخ الجمعة 18 أوت 2006 ميلادي الموافق ل 24 رجب 1427 هجرية، ونظرا لأهميتها نُشرت هذه الفتوى في أكثر من مصدر، ولم تنقطع إصدارات" المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء"، و"الجمعية التونسية للتحسيس بالتبرّع بالأعضا"على إعادة نشرها باستمرار صُلب منشوراتها أو في شكل مطوية منفردة، كما قامت بترجمتها إلى اللغة الفرنسية وتوزيعها في كل مناسبة. وللقارئ أن يتساءل من أين لي أن أعرف الشيخ جعيط وفارق السن بيني وبين الرجل يناهزالستين سنة، فلن أكون قطعا من تلاميذه؟؟ ولأصنّف نفسي من محبّيه وإن كان الشيخ يعاملني كابنه، لقد أحببت الشيخ كمال الدين جعيط قبل أن أراه والأذن سمعت عنه ما يحبّب فيه السامع، فقد درّس شيخنا الجليل والدي الأستاذ الشيخ محمد الصادق الشايبي في الأربعينات في التعليم الزيتوني، وقد شوقني والدي إليه بما حدّثني به عنه من مآثر طيبة وخصال حميدة وكنت أقرأ له كتاباته وفتاويه في مجلّة الهداية التي يصدرها المجلس الإسلامي الأعلى، وعند التحاقي بالمعهد الأعلى لأصول الدين بجامعة الزيتونة، جددّتُ الصلة بين الشيخ وجيل أبناء تلاميذه، ورأيت في سيدي الشيخ تواضعا لا يفي القلم بحق وصفه، فقد فتح لي الشيخ كمال الدين مكتبه وبيته وقلبه، ناهيك أنّه خلال زيارة فضيلة الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهرالشريف إلى تونس، وبعد إلقاء محاضرته وعندما همّ شيخ الأزهر بالمغادرة كان يرافقه سماحة شيخنا كمال الدين جعيط مفتي الجمهورية التونسية آنذاك، لمحني من بعيد منصرفا فنادني إلى جواره وعاتبني بحب ولامني بودّ عن طول مدّة غيابي عنه، غير مكترث بالبرتوكولات الزائفة التي رسمها منظموالندوة ومرافقو الشيخ من وزراء وغيرهم، فاعتذرت للشيخ جعيط وأنا أخشى أن أحرجه فضمّني بشوق إليه باسما أمام أنظار فضيلة الإمام الأكبر، وقد التقطت لنا صورة تؤرّخ اللحظة الباسمة والآن زاحم استحضار تلكم المحاسن في ذهني اعتصار قلبي، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق... إنّ من حق شيوخنا علينا أن نوقّرهم أحياء وأن نقتفي أثرهم أمواتا، وعلينا أن ندرك أنّ العمائم وحدها لا تصنع المشائخ. ولا يسعنا اليوم وقد فارقنا بيرقا من بيارق الإسلام في هذه الربوع، إلاّ أن ندعو العليّ القدير أن يرحمه، ونسأله أن يرزقنا جميل الصبر، وأن يمدّ في عمر البقية الباقية من شيوخنا الأفاضل.{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (3). (1) أخرجه البخاري، باب كيف يقبض العلم، 1/31 (100). (2) أخرجه ابن ماجه 1 / 81 (223). (3) سورة الأحزاب ، الآية : 23. باحث في العلوم الشرعية والتفكير الإسلامي