أوكرانيا 2025 .. فضيحة الفساد التي غيّرت مجرى الصراع    انطلاق عمليّة إيداع ملفّات الترشّح لمناظرة الانتداب في رتبة أستاذ مساعد للتعليم العالي    بنزرت: العثور على جثة لاعب كرة قدم مفقود منذ 20 يوما    2025 ... سنة المواجهة مع تجّار المخدّرات والمهرّبين    نابل: حجز وإتلاف 11طنا و133 كغ من المنتجات الغذائية وغلق 8 محلات لعدم توفر الشروط الصحية منذ بداية شهر ديسمبر    العائدات السياحية تناهز 7.9 مليار دينار    مع الشروق : أولويات ترامب... طموحات نتنياهو: لمن الغلبة؟    في حلق الوادي والمعبرين الحدوديين ببوشبكة وراس الجدير .. إفشال صفقات تهريب مخدرات    تظاهرة «طفل فاعل طفل سليم»    رواية " مواسم الريح " للأمين السعيدي صراع الأيديولوجيات والبحث عن قيم الانسانية    شارع القناص .. فسحة العين والأذن يؤمّنها الهادي السنوسي انفصام فنّي على القياس ..حسين عامر للصوفيات وحسين العفريت للأعراس    "كان" المغرب 2025.. حكم مالي لمباراة تونس ونيجيريا    كاس امم افريقيا 2025: مصر وجنوب إفريقيا في مواجهة حاسمة..    عاجل: انقطاع في توزيع الماء بهذه المناطق بنابل    وزير الدّفاع يؤدي زيارة ميدانية إلى القاعدة البحرية بمنزل بورقيبة    عاجل: جنوح عربة قطار بين سيدي إسماعيل وبوسالم دون تسجيل أضرار    ابدأ رجب بالدعاء...اليك ما تقول    فيليب موريس إنترناشونال تطلق جهاز IQOS ILUMA i في تونس دعماً للانتقال نحو مستقبل خالٍ من الدخان    منع بيع مشروبات الطاقة لمن هم دون 18 عاما..ما القصة..؟    خبير يوّضح: العفو الجبائي على العقارات المبنية مهم للمواطن وللبلديات..هاو علاش    ماذا في اجتماع وزير التجارة برؤساء غرف التجارة والصناعة؟    عاجل/ مقتل عنصرين من حزب الله في غارة صهيونية استهدفت سيارة شرق لبنان..    زغوان: مجمع الصيانة والتصرف بالمنطقة الصناعية جبل الوسط بئر مشارقة يعلن عن إحداث حقل لانتاج الطاقة الفوطوضوئية    شركة الخطوط الجوية التونسية تكشف عن عرضها الترويجي 'سحر نهاية العام'    يتميّز بسرعة الانتشار والعدوى/ رياض دغفوس يحذر من المتحور "k" ويدعو..    وفاة ممرضة أثناء مباشرة عملها بمستشفى الرديف...والأهالي ينفذون مسيرة غضب    تعرّف على عدد ساعات صيام رمضان 2026    عاجل: تهنئة المسيحيين بالكريسماس حلال ام حرام؟...الافتاء المصرية تحسُم    البرلمان ينظم يوم 12 جانفي 2026 يوما دراسيا حول مقترح قانون يتعلق بتسوية الديون الفلاحية المتعثرة    وليد الركراكي: التتويج باللقب القاري سيكون الأصعب في تاريخ المسابقة    زيت الزيتون ب10 دنانير:فلاحو تونس غاضبون    موسكو تدعو مواطنيها إلى الامتناع عن السفر إلى ألمانيا لهذه الأسباب    فضاء لبيع التمور من المنتج إلى المستهلك من 22 إلى 28 ديسمبر بهذه الجهة..#خبر_عاجل    11 مليون عمرة في شهر واحد... أرقام قياسية من الحرمين    ما ترميش قشور الموز: حيلة بسيطة تفوح دارك وتنفع نباتاتك    التمديد في المعرض الفني المقام بالمعلم التاريخي "دار الباي" بسوسة الى غاية منتصف جانفي 2026    اسكندر القصري ينسحب من تدريب مستقبل قابس    افتتاح الدورة 57 للمهرجان الدولي للصحراء بدوز    أنشطة متنوعة خلال الدورة الأولى من تظاهرة "مهرجان الحكاية" بالمركب الثقافي بسيدي علي بن عون    موزّعو قوارير الغاز المنزلي بالجملة يعلّقون نشاطهم يومي 12 و13 جانفي 2026    عاجل: اليوم القرار النهائي بخصوص اثارة الافريقي ضدّ الترجي...السبب البوغانمي    البطولة الوطنية المحترفة لكرة السلة: برنامج مباريات الجولة العاشرة    مع Moulin d'Or : قصّ ولصّق وشارك...1000 كادو يستناك!    رياضة : فخر الدين قلبي مدربا جديدا لجندوبة الرياضية    عاجل: هذا ما تقرر في قضية المجمع الكيميائي التونسي..    كأس أمم إفريقيا: برنامج مقابلات يوم غد    عاجل: تقلبات جوية مرتقبة بداية من هذا التاريخ    ينشط بين رواد والسيجومي: محاصرة بارون ترويج المخدرات    عاجل/ تركيا ترسل الصندوق الأسود لطائرة الحداد إلى دولة محايدة..    صحفي قناة الحوار التونسي يوضح للمغاربة حقيقة تصريحاته السابقة    نانسي عجرم ووائل كفوري ونجوى كرم يحضروا سهرية رأس السنة    بداية من من غدوة في اللّيل.. تقلبات جوية وبرد شديد في تونس    النوبة القلبية في الصباح: علامات تحذيرية لازم ما تتجاهلهاش    رئيس الجمهوريّة يؤكد على ضرورة المرور إلى السرعة القصوى في كافّة المجالات    ترامب مهاجما معارضيه في التهنئة: عيد ميلاد سعيد للجميع بما في ذلك حثالة اليسار    كوريا الشمالية تندد بدخول غواصة نووية أمريكية إلى كوريا الجنوبية    مع الشروق : تونس والجزائر، تاريخ يسمو على الفتن    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشارع التونسي :غلاء المعيشة أنهك "الزوالي "..استياء من التجاذبات السياسية.. وتفشي البطالة
الذكرى الثانية للثورة
نشر في الصباح يوم 13 - 01 - 2013

تحيي تونس الذكرى الثانية للثورة المباركة ونكاد نجزم-للأسف- أنّ أغلب المواطنين "قلوبهم مغلغلة" باعتبار أنّ الوضع العام للبلاد شهد تدهورا على جميع المستويات ولم يكن ليعكس تطلعات الشعب التونسي..
فالبطالة تفاقمت وغلاء المعيشة أنهك "الزوالي" ولم نلحظ أية مؤشرات ايجابية تنبئ بمستقبل زاهر من شأنه أن يزيح كل ما يبعث في النفوس من تشاؤم واستياء إزاء تعثرمسار الانتقال الديمقراطي وما يمكن أن ينتجه من تقهقر في شتى المجالات..
وبما أننا نحتفل اليوم بذكرى عظيمة في تاريخ بلادنا واكبت "الصباح" الحدث مواكبة ميدانية وسجلت تفاعل الشارع من خلال تحاورنا مع العديد من المواطنين من فئات مختلفة.
الآراء لم تكن متباينة بقدر ما كانت تلتقي في نقطة رئيسية ألا وهي الجانب السلبي لثورة 14جانفي وانعكاساته، المتسبب في حالة غليان شهدتها أغلب الجهات بتونس ولا تزال..
يرى توفيق البجاوي (تاكسيست) أنّ تونس ما بعد الثورة تراجعت في جميع المستويات وانتهجت طريقا خاطئا لتثبيت المسار الديمقراطي، ذلك أن الثورة طغت عليها ايديولوجيات الأحزاب والمصالح الضيقة فضلا عن تنفيذ "الترويكا" لأجندات غربية وهذا حسب رأيه- "مخطط صهيوني أمريكي يطمح لإعادة مشروع الشرق الأوسط الجديد. "
ولتفادي كل هذه الأمور يرى توفيق أنه "يجب تجنب الضغط الدولي..ثم إن الشعب يجب أن ينتخب أناسا أكفاء لتسيير البلاد..ذقنا الأمرين خلال عامين ما بعد الثورة وأحسب أن الشعب التونسي غير قادر على تحمل المزيد من العناء.."
مواطن تونسي آخر(يمتهن مهنا حرة) لم يرد التصريح باسمه، بيّن لنا أنه غير متفائل إزاء الوضع العام للبلاد وهو "مستاء من غلاء المعيشة وعدم الاستقرار..في المقابل أنا ضد الاعتصامات والعنف بشتى أنواعه لأنه يرجع بالمضرة على "الزوالي"..من جهة أخرى أرى أن الحزب الحاكم يضم العديد من الأشخاص الأكفاء الذين يستطيعون حل العديد من المشاكل ورسم خارطة جديدة لتسيير البلاد لكن وجود العديد من الأحزاب المعارضة حال دون ذلك.."
منصف الغربي (وسيط قمرقي) يقول في ذات السياق "جاءت الثورة لنيل الحقوق بالأساس ولا أظن أنّنا بلغنا أدنى المطالب على غرار تشغيل أصحاب الشهائد العليا والحد من غلاء المعيشة..الشعب التونسي لا يطالب بالمناصب بقدر ما يطالب بالحياة الكريمة..ثم إنّه حسب اعتقادي لو تمتع شخص في كل عائلة بوظيفة لكانت الأمور أحسن بكثير..من جهة أخرى أرى أن "سمعة" ثورتنا في العالم تدنت بشكل كبير لأننا لم نحسن استثمارها..
أما علي بن حمودة (حارس عمارات ضباط الشرطة بالحي الأولمبي) فيرى أن كثرة الأحزاب تمثل عنصر التشويش والتحريض، الأمر الذي حال دون تقديم مشاريع تخدم مصالح البلاد. ليضيف "التونسيون كانوا "يعرفو بورقيبة على شنية يمشي ويجي" لا لشيء إلا لأنه أقصى أغلب الأحزاب المعارضة..ثم إني أرى أن النهضة كانت تستطيع أن تقدم الأفضل لو لا تواتر الأحزاب..
حاتم بن طالب (عامل بإحدى المصانع) باستياء كبير استهل حديثه قائلا "دبروها أصحاب رؤوس الأموال وكلاها الزوالي في عضامو" مشيرا إلى أنّ مسألة التعويض للمساجين السياسيين ليست من بين الأولويات باعتبار أن العديد من التونسيين "ميتين بالشر"..كما أنه من غير المعقول أن يعاني أصحاب الشهائد العليا البطالة إلى حد هذه الساعة شأنه في ذلك شأن "بو العايلة البطال"..
بكل عفوية قال أحمد حليلة (تلميذ) أن الأمن ما بعد الثورة لم يسترجع هيبته المعهودة وهو ما تسبب في عدم الاستقرار..وعن نظرته الاستشرافية أبدى أحمد تفاؤله إزاء مستقبل تونس متمنيا المزيد من الرقي لتونس وأن يكون الحزب الحاكم بعد الانتخابات "دكتاتوريا عادلا"..
وليد عبدلاوي

حصاد الثورة
نخب سياسية نفثت سموم التفرقة..الاستقطاب وانقسام المجتمع.. ومخاطر محدقة
بقدر ما كانت الثورة أداة جمع بقدر ما حولها آداء النخبة السياسية إلى حدث تفرقة.
ربما تكون هذه الصورة أفضل اختزال لحصاد الثورة بعد سنتين. ويجد هذا الحكم امتداده اليوم في واقع التونسيين الذين انقسموا بفضل التطاحن السياسي والإستقطاب الثنائي إلى إسلاميين وعلمانيين.. إلى رجعيين وحداثيين.. إلى مدنيين مسالمين وإلى متطرفين ارهابيين.. إلى ثوريين وتجمعيين.. إلى شرعيين ومجروحين من نتائج الإنتخابات..
ووصل خوف التونسيين اليوم من شبح التفرقة إلى حد الهمس أو التصريح أحيانا بمخاطر الإنزلاق إلى الإقتتال لا قدر الله في ظل الحقائق المفزعة التي لم تعد خافية على أحد حول رواج الأسلحة في تونس وقد لا تكون من البالغة في شي إذا ما قلنا أن هناك من أصبح يقبل على اقتناء السلاح ومن يبيعه. والكل يعلم مدى خطورة هذا المؤشر وتداعياته. ولعل الخوف الأكبر من هذه التفرقة المفتعلة التي زرعها السياسيون والنخبة أن تتحول إلى قناعة وممارسة راسخة لدى التونسيين حتى وإن انتهى تناحر الساسة والأحزاب فيما بينهم وتوصلوا إلى اتفاق أو قسمة ترضيهم والأرجع أنهم في طريقهم إلى مثل هذا السيناريو.
وهذه الفرضية لا يستبعدها المتابعون للشأن السياسي والإجتماعي إذ يشير المختص في علم الإجتماع السياسي طارق بلحاج محمد أنه وفق المنطق السائد في طبيعة الخلاف السياسي القائم اليوم وهو خلاف وهمي وشكلي وأجرائي بين مكونات الطبقة السياسية يتمحور في غالبه حول السلطة وليس حول الثورة والمجتمع وبالتالي فهم قادرون-أي النخب السياسية-على عقد الصفقات والوصول إلى توافقات في أي لحظة لكنهم في المقابل عاجزون عن الزام قواعدهم وشعبهم بهذه التوافقات. ويعتبر محدثنا أن النخب السياسية نجحت للأسف على امتداد سنتين في تقويض حتى أسباب نجاح الثورة وتميزها.
كيف ذلك؟
يوضح طارق بلحاج محمد أن سر نجاح الثورة التونسية كأول ثورة إجتماعية مدنية وسلمية في الألفية الثالثة يتجسد في عنصريين اثنين أولا وحدة الهدف والقضاء على الاستبداد والحفاظ على الوطن وثانيا أن المجتمع التونسي موحد سوسيولوجيا وثقافيا ولهذا حافظ على وحدته وتواصله حتى بعد تعطل كل مظاهر الدولة مباشرة بعد الثورة.
منطق الغنيمة
ويضيف طارق بلحاج أن هذه الوقائع تزعج البعض أو يعجز البعض على التماهي معها ولذلك يستثمر في الفرقة كرأس مال سياسي لاستقطاب مناصرين.
ذلك أنه عندما تغيب الرؤى والخطوات الإصلاحية المنسجمة مع الثورة فمن الطبيعي جدا أن تحل محلها مفردات الإستقطاب والإقصاء والكراهية لسبب جوهري هو أن النخب ليست نخب ثورة"فالثورة التونسية لم تفرز معها نخبها الفكرية والسياسية رغم مشاركة البعض فيها بشكل شخصي.. ولهذا تعاملت النخب القديمة بمنطق الغنيمة أكثر من منطق الثورة.."
ويضيف محدثنا أن آداة هذه النخب القديمة في التعامل كان على أساس صراعات تجاوزت كل الخطوط الحمراء بدء من العنف اللفظي والتشهير والتخوين مرورا بالعنف السياسي وصولا إلى تجارة الفضائح الشخصية" وتغيب في هذا الصراع البرامج لكن تستحضر فيه الغرائز لتجييش الناس والتجارة بآلامهم ومخاوفهم.. والنتيجة كثيرون حول السلطة قليلون حول الوطن".
وساهم الصراع المحموم بين السياسيين في تغذية الإحتقان بين القواعد الشعبية وتنامي العنف السياسي لأنه عندما تخرج هذه النخب على المواطنين بالخطابات المتشنجة فستنعكس تلك الروح العدوانية على سلوك قواعدها الشعبية وعندما تنتفى لغة الحوار بين النخب فمن الطبيعي أن تضعف أيضا بين عامة الناس الذين يكونون إما متحمسين أو جاهلين.
من جهة أخرى يقول طارق بلحاج إنه عندما تصبح الدولة غنيمة وحين يغلب منطق التنازع على عقلية السياسيين تضعف بالضرورة كل مؤسسات الدولة بما في ذلك المؤسسة الأمنية والعسكرية التي تعيش اليوم ضغوطا غير مسبوقة"وإذا ما أضفنا إلى ذلك تمتع بعض الأطراف العنيفة بالحصانة السياسية والقضائية نظرا لقربها العقائدي والإيديولوجي مع من يحكم يصبح الوضع الأمنى محرجا للمواطنين والأمنيين على حد السواء".
الاستقطاب الثنائي
وفي تأكيده على مخاطر الاستقطاب وتداعياته اليوم على المجتمع التونسي يشير محدثنا إلى أن حالة الاستقطاب وصلت من الحدة إلى درجة أن الناس أصبحت تتنازع حتى على التاريخ الحقيقي للثورة.
من جهة أخرى فتشظى الشرعية الأصلية أي الشرعية الثورية وتعويضها بشرعيات زائفة أو مرحلية كالشرعية الانتخابية والتوافقية والجبهوية والتنازع حول هذه الشرعيات قد يفتح الباب أمام المجهول.
والأخطر في هذا الموضوع وفقا لمحدثنا هو ظهور شرعيات فرعية تأخذ الطابع الجهوي والعشائري والقبلي والفئوي وتهدد تماسك المجتمع والدولة التونسية.
ويضيف طارق بلحاج أن ما نفثه السياسيون والنخبة من روح العدوانية والكره والعداء لا يمكن فسخه من وجدان الناس وقناعتهم بمجرد قرار سياسي تغلب عليه المصلحة أكثر من المبدأ.
وحتى إذا توصل السياسيون إلى توافق فالخشية أن تتحول حالة الإحتقان إلى حالة قارة ويتحول هذا الإستقطاب المفتعل إلى جرح نازف في جسد هذا الوطن "لأنه عندما يخرج المارد من قمقمه يصعب إرجاعه وخاصة على أيدي هذه الطبقة السياسية المرتبكة".
ويخلص محدثنا إلى أنه على المستوى المنظور أي على مدى سنوات يمكن أن تحصل اختراقات أمنية وأحداث وصراعات تأخذ الطابع الجهوي والفئوي وهي مخاطر لا يمكن الغاؤها أو التقليل منها. لكن بمنطق التاريخ فإن المجتمع التونسي الموحد أديولوجيا والذي ينبذ العنف والذي كان قادرا على صهر الغرباء والغزاة في نسيجه المجتمعي الخصوصي على امتداد 3 آلاف سنة قد يكون قادرا على ذلك أيضا مع أبناء الوطن الواحد.
منى اليحياوي

تحليل اخباري
من «جبة» بن علي إلى أتون الثورة.. المؤسسة الأمنية بين الموجود والمنشود (1-2(
إن أي مشروع سياسي ديمقراطي ناشئ لا يمكن له ان يتجسم وينجح دون مشروع اقتصادي ديناميكي يقلص رقعة الفقر والتهميش ويمثل "وعدا" لل"معذبين فوق الارض" بتحسين أوضاعهم المعيشية في مستقبل قريب.
وأي مشروع اقتصادي لا بد له أن يرتكز على مناخ من الامن والاستقرار لكي يكتب له النجاح.
ونحن اليوم بعد عامين من الثورة نبدو بعيدين جدا عن مثل هذا الاستقرار، فالوضع الامني ما فتئ يتأرجح بين استقرار نسبي وبين انفلاتات يصغر حجمها حينا ويعظم أحيانا.
ورجل الامن نفسه أصبح يحس نفسه مهددا ومفتقرا إلى الحماية فكيف يمكن ان نطلب منه والحال هذه حماية المجتمع.
خطر داخلي وخارجي
إثر الثورة شهد الوضع الامني هشاشة كبيرة وتعددت مظاهر الفوضى والانفلات داخليا وتعاظم الخطر الخارجي بفعل مطامع التنظيمات الارهابية الناشطة على مقربة من حدودنا في الجزائر أو حتى تلك البعيدة عنها في مالي والنيجر والمرتبطة بتنظيم القاعدة ايديولوجيا أو تنظيميا وزاد الطين بلة الوضع القائم في ليبيا بفعل كميات السلاح الهائلة التي تسربت من مخازن العقيد القذافي والتي اصبحت محل متاجرة من قبل شبكات اجرامية وارهابية داخل ليبيا وخارجها.
فكيف تعاملت السلطة الجديدة في تونس أي تلك المنبثقة عن انتخابات 23 أكتوبر مع هذا الوضع المتفجر والخطير لتقود "المركب" الى بر الامان.
وهل نجحت بعد عام من تسلمها مقاليد السلطة في البلاد في الحد من هذه الاخطار داخليا وخارجيا؟
مخزون الحقد
مثل الجهاز البوليسي الركيزة الاساسية لمنظومة قمع بن علي وكانت يده مطلقة في البلاد دون أي حسيب او رقيب ولذلك فان مخزون الحقد ضده انفجر اثر الثورة خصوصا بعد فرار اكثر من عشرة آلاف سجين من داخل السجون التونسية فشهدت مقراته اكبر نسبة من الاضرار بمؤسسات السيادة قدرها وزير الداخلية السيد علي العريض ب%30 (أي حوالي الثلث من التجهيزات والعتاد والمقرات).
وعادة بعد الثورات فان البوليس السياسي هو الذي يكون مستهدفا من مثل هذه المظاهر الا ان الطبقة السياسية في تونس تميزت بحس حضاري واخلاقي يحسب لها، وما حدث لدينا هو ان الاعتداءات على جهاز الأمن وقف وراءها غالبا المنحرفون وذوو السوابق العدلية، مستغلين مناخ الثورة وهشاشة المنظومة الامنية. فصورة المؤسسة الامنية المشوهة اصلا، تلقت ضربات موجعة اثر ظهور ما سمي ب" قائمات العار" وايضا بتراشق اطاراتها ومسؤوليها بالتهم عبر وسائل الاعلام وبظهور ما خفي من قصص التعذيب الوحشية على السطح وبمحاكمة عدد من "أعوان التنفيذ" في قضايا جرحى وشهداء الثورة وكل هذه الاسباب مجتمعة جرّأت المنحرفين على التطاول على المؤسسة الامنية واربكت عملية تحولها تدريجيا الى مؤسسة جمهورية في خدمة الشعب فتعددت الاعتداءات على مقرات الامن ورجاله اذ وصلت الاعتداءات على الاعوان في العشرة اشهر الاولى من سنة 2012 الى حوالي 1300 اعتداء كما دخلت في هذه اللعبة الخطرة التيارات السلفية منذ مارس الماضي لتزيد الطين بلة.
منحرفون و.. سلفيون
ولتقدير طبيعة هذه الاعتداءات واسبابها يجدر استعراض بعض الوقائع على سبيل الذكر لا الحصر ففي شهر فيفري 2012 شهدت مدينة السرس اعتداء مجموعة منحرفين من بينهم سجين سابق تمتع بالعفو في الذكرى الاولى للثورة على عوني سجون وقبلها في اواخر جانفي 2012 تعمد منحرفون بمدينة القطار اقتحام مركز الشرطة والاعتداء على اعوانه بالسيوف والعصي لاطلاق سراح.. بائعتي هوى !
في ماي سقط عون الأمن "جلول العيساوي" المنتمي الى منطقة الأمن ببوحجلة بالقيروان قتيلا بعد أن دهسه منحرف بسيارته انتقاما إيقافه منذ فترة.
وخلال شهر ماي 2012 عرفت البلاد موجة من الاعتداءات السلفية على مقرات أمنية وسيادية ومحلات تجارية (نزل مساحات كبرى حانات الخ...) في عديد المناطق في (سيدي بوزيد الكاف القيروان سوسة الزهراء حمام الأنف جندوبة سقط فيها عشرات من رجال الأمن بين قتيل وجريح.
وقد تميز شهر نوفمبر الماضي بسلسلة كبيرة من الاعتداءات المادية على رجال الأمن خصوصا في العاصمة وأحوازها.
ففي بداية الشهر وقع الاعتداء بدوار هيشر بمنوبة على الرائد وسام بن سليمان رئيس فرقة الأمن العمومي بآلة حادة في رأسه أثناء التدخل لفض نزاع بين سلفيين وبائعي خمر خلسة وتوجهت أصابع الاتهام نحو السلفيين ويوم 13 نوفمبر من نفس الشهر تعرض رئيس مركز الدندان وعونان الى العنف من قبل مفتش عنهم بحي 3 أوت بالدندان بعد أن تحولوا للقبض عليهم اذ تمت مواجهتهم بالسيوف والهراوات والكلاب ووقع افتكاك سلاح أحد الأعوان وفي نفس اليوم تم دهس مسؤول بشرطة المرور النقيب فريد الحمروني من قبل سائق سيارة محل تفتيش وفي نفس اليوم ايضا تعرض رئيس فرقة التدخل السريع بإقليم تونس ايمن بن ابراهيم الى الاعتداء في وجهه من قبل أحد أصحاب السوابق وبائع خمر وذلك بحي التضامن.
والغريب في الأمر، أن مجموعات "سلفية" لا تتوانى عن التظاهر أمام المحاكم أو عن الاعتداء على مقرات الأمن للضغط لاطلاق سراح مورطين في عمليات ارهابية سالت فيها دماء تونسيين كعمليتي الروحية وسيدي علي بن خليفة.
بين الفردي والجماعي
ان مظاهر الانفلات الامني تبلغ احيانا حدودا لا تطاق ولا يمكن ان يقع التسامح معها في دولة قانون ومؤسسات.
فكل اعلان عن نتائج مناظرة، أو قائمة انتداب الا وتتبعه اعمال عنف وشغب تستهدف مؤسسات السيادة وتتمخض عن قطع طرقات فرعية او رئيسية. ففي أم العرائس تم حرق مركز الحرس اثر الاعلان عن نتائج شركة فسفاط قفصة في أواسط شهر أفريل 2012. وفي منزل بوزيان تم يوم 17 من نفس الشهر حجز قطار المسافرين الرابط بين قفصة وصفاقس.
وبعد "مفاوضات" مع السلط المحلية تم تجميع المسافرين في قاطرتين انطلقتا نحو صفاقس بينما حجزت بقية القاطرات التي استعملت ل...غلق السكة الحديدية. وقد قبلت السلط الجهوية والمحلية بهذا الاتفاق !! ومؤخرا خلال شهر جانفي الحالي قام مواطن بغلق الطريق طوال... 5 ساعات كاملة احتجاجا على قطع الستاغ للكهرباء التي كان يسرقها من عمود ضوء عمومي عن كشكه الذي بناه إثر الثورة دون رخصة في الملك العمومي !
ويوم 13 ديسمبر الماضي حدثت أحداث عنف وشغب بجزيرة قرقنة للاحتجاج على إلقاء القبض على.. منظم رحلة حرقان الى ايطاليا ! وبعدها بقليل خلال شهر جانفي الحالي وقع عزل الجزيرة طوال 3 أيام من قبل مراكب الصيد العشوائي ب"الكيس" للاحتجاج حسب أقوال أصحاب المراكب أنفسهم لوسائل الاعلام على تطبيق القانون بصرامة.
مسؤولية من؟
لا بد من الاعتراف بأن السلطة السياسية الجديدة التي تمخضت عنها الانتخابات والتي تقود قاطرتها حركة "النهضة" تتحمل قسطا لا يستهان به من انخرام الوضع الأمني في البلاد.
إذ أنها أسرفت خلال حملتها الانتخابية في الوعود السخية غير القابلة للتحقيق على المدى القصير، كما ساهمت في تأجيج تيار السخط والمطلبية بمسألة التعويضات لسجناء العهد السابق ومشرديه، ولكن قد يكون أكبر خطإ ارتكبته هو تعاملها بمنتهى اللين و"التراخي" ونحن هنا نستعير تعبير بعض وزراء النهضة مع التمظهرات العنيفة للتيارات السلفية والمارقة على القانون.
إذ واصلت، مدفوعة دون شك لحسابات انتخابية لوقت طويل في الترويج بأن ما يقوم به السلفيون يدخل في نطاق الحرية الجديدة التي منحتها الثورة لجميع الحساسيات والأطياف في الوقت الذي تكررت فيه اعتداءاتهم على الاشخاص والمؤسسات ومثلت تهديدا للمصالح الحيوية للبلاد، كنوايا الاستثمار وقطاع السياحة، بل تمسكت بالترويج بمقولة "المؤامرة" الهادفة لاحداث الوقيعة بينها وبينهم، وبدا واضحا جليا أن الملف الأمني في البلاد لا تتحكم في خيوطه وزارة الداخلية حصريا، بل أيضا الحزب "المهيمن" في البلاد.
فوزير الداخلية هدد منذ مارس 2012 على أعمدة جريدة "لوموند" وكرر تهديداته أمام التأسيسي بالتصدي بمنتهى الحزم للاخلالات بالأمن العام مهما كان مأتاها و"تنبأ" بأن المواجهة مع السلفيين وشيكة. كما جدد الوزير في 31 ماي تهديداته، مؤكدا أن من يخربون مؤسسات الدولة سيتم ضدهم تطبيق القانون عدد 4 لسنة 1969 الذي يسمح باستعمال الرصاص الحي بعد استنفاد الطرق الاخرى. وقال ان ذلك ضروري حتى لا تسقط البلاد في الفوضى، إلا أن تهديداته بقيت حبرا على ورق فوقعت بعدها الاحداث الخطيرة بجندوبة والقيروان وسيدي بوزيد وسوسة والزهراء وغيرها، وسقط خلالها قتلى وجرحى دون أن تفرض أي تغيير في سياسة الدولة ازاءهم الى أن "توجت" هذه الانفلاتات بأحداث السفارة الأمريكية الخطيرة، بل لقد بدت على امتداد السنة الماضية، سياسة المكيالين واضحة وجلية وخصوصا خلال أحداث يوم 9 أفريل بالعاصمة، وقد بلغت الانفلاتات تدريجيا درجة من الخطورة دفعت بلدانا عديدة لتحذير مواطنيها من السفر الى تونس.
- يتبع-


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.