واشنطن تعترف ولأول مرة منذ عشرين عاما بحكومة صومالية، وحركة الشباب الصومالي تعلن في نفس اليوم اعدام رهينة فرنسي محتجز لديها منذ ثلاث سنوات بدعوى الانتقام من الجزائر التي فتحت أجواءها للطائرات الفرنسية في حربها على المجموعات الارهابية في مالي، والدوحة تعلن افتتاح مكتب لحركة "طالبان" قريبا لاحتضان المفاوضات قبل انسحاب الامريكيين من افغانستان العام القادم.. اغراء الحركات المتطرفة بالمال والسلطة أمر بات من أكثر الخيارات القائمة في الغرب بعد عقد كامل من الحرب الأمريكية/الأطلسية الخاسرة على الارهاب في جبال تورا بورا ومغاور أفغانستان، ومن يدري، فقد تتلو هذه الخطوة خطوات أخرى للتفاوض مع حركات "الشباب" في الصومال و"بوكو حرام" في نيجيريا و"كتيبة الملثمين" في مالي وغيرها من الحركات المتطرفة التي انتشرت كالفقاقيع في شمال افريقيا تحت راية الاسلام وبدعوى الجهاد انتصارا للمسلمين في مواجهة الكفار في العالم. فكل الطرق وكل وسائل الاغراء تصبح مطلوبة للتخلص من شبح "القاعدة" التي مدت فروعها وتشابكت في أكثر من منطقة منذ مقتل زعيمها أسامة بن لادن في أفغانستان العام الماضي، من اليمن إلى شمال إفريقيا حيث بدأت تزحف وتعيد إحياء خلاياها النائمة بعد أن وضع أنصارها اليد على كميات من الأسلحة، قد لا يتضح في الوقت الراهن مداها أو حجمها أو خطورتها، بعد سقوط نظام القذافي. وقد جاءت أحداث الرهائن المحتجزين في مجمع عين أميناس للغاز وما آلت اليه من نتائج مأساوية لتطلق ناقوس الخطر وتؤكد أن الخطر ليس ببعيد عن حدودنا وأن تونس ليست بمعزل عن انعكاسات "حملة القط المتوحش" التي تقودها فرنسا في مالي. وقد كان للأخبار المتواترة بشأن العثور على كميات من الاسلحة والمتفجرات والصواريخ في مدنين وقع الصدمة في النفوس، بل الأكيد أن في ما تناقلته مختلف وسائل الاعلام عن تلك "الترسانة" المدمرة لا يمكن إلا أن يزيد دواعي وأسباب الخوف لدى المواطن التونسي المنشغل أصلا بأمن بلاده في خضم الاحداث المتسارعة والمعقدة محليا واقليميا، ولا يمكن إلا لغبي أو متعنت رافض تأمل الواقع، أن يقتنع بأن ما وقع مصادرته يمثل كل الأسلحة المهربة أو أنه لم يتمّ تسريب غيرها إلى مواقع أخرى من البلاد في انتظار نقطة الصفر، أو أن من وضعوا الأيدي على تلك الأسلحة سيسعون لجمعها في متحف للعرض. ومن هنا فإن ما يروّج عن تحركات مرتقبة للخلايا النائمة ل"القاعدة" في أوروبا قد لا يكون مجرد مزحة وما تعرضه القنوات الفرنسية من ترحيب في صفوف الجالية المالية على ترابها بالتدخل الفرنسي في مالي قد لا يكون سوى وجه واحد من وجوه متعددة للعملية.. أكثر من سبب من شأنه أن يدعو للاعتراف بأن ما يحدث في شمال مالي لن يكون من دون تداعيات أو انعكاسات أمنية وسياسية واقتصادية وسياحية على بلادنا، وعملية عين أميناس للغاز شرق الجزائر، وإن لم تبح بكل أسرارها، ليست سوى واحد من السيناريوهات الكثيرة القاتمة التي يمكن أن تحدث في ظل عودة ما يعرف بشبكة "القاعدة في المغرب الإسلامي" الى نشاطاتها متسلحة بالواقع الجديد في دول الربيع العربي وما تحاول الحركات الجهادية المتطرفة تسويقه لإعطاء ثورة الحرية والكرامة والعدالة توجها مغايرا وتحويلها الى ثورة دينية على النمط الايراني، وكأن التونسيين قبل ثورة 14 جانفي كانوا يدينون بغير الاسلام أو لكأن المصريين قبل 25 يناير والليبيين قبل 17 فبراير كانوا يعبدون الأصنام والأوثان ولا يعرفون طريق المساجد أو قواعد وشروط الإسلام.. صحيح أن تونس لا تربطها حدود مباشرة مع مالي ولكن ارتباط هذا البلد الواقع غرب إفريقيا في حدوده العريضة مع عدد من الدول من بينها الجزائر والنيجر والسنيغال وموريتانيا وغيرها يجعل الامر لا يخلو من الخطورة ويستوجب خطوات استباقية درءا لكل المخاطر بعد تسرب ذلك الكمّ الهائل من الاسلحة المهربة من المخازن الليبية عبر كل المنطقة. ولعل في التصريحات المطولة لولد بوعمامة الناطق الاعلامي باسم من يطلقون على أنفسهم كتيبة "الموقعين بالدم" ما يعكس درجة من الاصرار على الدخول في لعبة الموت لمجموعات عشاق الدمار وفق منطق ديني غريب عن الاسلام كما عن السواد الأعظم لمختلف مكونات المجتمع التونسي والذين مهما اختلفت مواقفهم وتياراتهم السياسية لا يمكن أن يقبلوا بكتيبة تلجأ الى إهدار دماء الأبرياء لتوقع إنجازاتها وتوثق انتهاكاتها لحق الإنسان الطبيعي في الحياة وفي الحرية التي كان الخليفة عمر بن الخطاب من أشرس المدافعين عنها بقولته الشهيرة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". فقد كان في تمجيد ولد بوعمامة للنساء الجزائريات وقدرتهن على إنجاب بدل محمد مراح المئات، إهانة لهن في واقع الأمر والحال أن المرأة الجزائرية كانت ولا تزال رمزا للمقاومة والنضال ضد الاحتلال، كما كان في دعوته الموجهة للتونسيين والموريتانيين والليبيين للاستعداد في كل مكان لضرب المصالح الفرنسية ما لا يمكن الا أن يحمل رسالة خطإ من المصدر الخطإ وفي الوقت الخطإ. ولو أن بوعمامة أو زعيمه مختار بلمختار قائد "كتيبة الملثمين" التي تحولت الى "كتيبة الموقعين بالدم" كانوا يتحكمون في اقتصاد العالم أو يتصدرون مواقع البحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة أوقائمة كبار العلماء الذين يسيطرون على تكنولوجيا الفضاء ويدفعون الى احياء عهد الاسلام والمسلمين مع التفوّق الطبي والهندسي والعلمي والأدبي والفنيّ لكانوا كسبوا عقول وأفئدة الشعوب المسلمة دون حاجة للسلاح والدم يذيلون بها "غزواتهم".. قبل سنتين وعندما احترق محمد البوعزيزي ليضيء درب الآخرين قلنا ان في ثنايا تلك النهاية انتصارا أيضا على ثقافة "القاعدة" وسعيها الى استيلاب عقول الشباب، فقد آثر البوعزيزي تلك النهاية ليمنح غيره من الشباب فرصة حياة أفضل، يومها ترسخت القناعة بأن البوعزيزي هزم كل الحركات المتطرفة لأنه لم يطلب من غيره أن يموت ليعيش ويتمتع هو من بعده.. اليوم ينسى أو يتناسى الكثيرون أن البوعزيزي مات ومنح غيره في تونس ومصر وليبيا واليمن أن يعيش...