- يعقد المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية مؤتمره الدولي السنوي في أسبوع المولد النبوي الشريف من كل عام هجري، وفي هذا الإطار انعقد في أواخر شهر جانفي من هذه السنة في مدينة طهران المؤتمر الدولي 26 للوحدة الإسلامية، تحت عنوان (النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، رمز هوية الأمة الإسلامية الواحدة) وقد حضر هذا المؤتمر ما يناهز 1300 عالم ومفكر وباحث ومثقف يمثلون أكثر من 100 دولة، وقد كنت ضمن الوفد التونسي الذي ترأسه سماحة مفتي الديار التونسية، وكانت لي مساهمة في أشغال المؤتمر ضمن لجنة "الصحوة الإسلامية وترشيدها" بمداخلة عنونتها بسؤال عن مستقبل أمة الإسلام في ظل حاضر تشهد فيه الأمة فقرا وتخلفا وتشتتا، وتناحرا بين مذاهب وتيارات فقهية أو سياسية منسوبة للإسلام، وهي تتقاذفها سياسات العولمة ومشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي... وقد أصدر المؤتمر في ختام أشغاله بيانا ختاميا ضمنه تأكيدا على حرمة دم المسلم وماله وعرضه... واتفق المؤتمرون على أن المذاهب الإسلامية التي تؤمن بأركان الإسلام وأصول الإيمان، ولا تنكر معلوما من الدين بالضرورة، يؤلف المنتمون إليها بمجموعهم الأمة الإسلامية الواحدة، وتتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ويتعاونون لتحقيق الأهداف الإسلامية السامية، وأن الاختلاف السياسي لا يجوز أن توظف فيه الاختلافات العقدية أو التاريخية أو الفقهية، وأن إثارة أية فتنة طائفية أوعرقية لا تخدم إلا أعداء الأمة، وتحقق خططهم الماكرة ضدها وفي آخر أيام المؤتمر قام سعادة سفير الجمهورية التونسية في طهران بدعوتنا وقد لاحظت حرصا شديدا منه على مصالح بلادنا، حيث لمست منه مرارة في حديثه عمن يتعمّد تشويه صورة تونس في الخارج بإعطاء انطباع سيء عن الوضع الأمني في البلاد، مما ينشر الخوف والرعب في صفوف المستثمرين والسياح، فنفقد بذلك بابا من أبواب الإستثمار، وفرصة لتنشيط السياحة، ومن ثمة تحريك الدورة الاقتصادية وتوفير مزيد من مواطن الشغل، وكان يقول: يجب أن نكون جميعا سفراء لتونس خدّاما للوطن... أما عن زيارتي لطهران، فأوّل ما جلب انتباهي ونحن في طريقنا من المطار الذي يُوجد على بعد 30 كلم جنوبي المدينة الى نزل فخم في وسط العاصمة، غياب مظاهر العسكرة والأمن... فالمدينة آمنة وسكانها آمنون، ولا ترى أي تحرك فردي أو جماعي يوحي إليك أن هذا الشعب يعيش ظرفا أمنيا مشدّدا وخاصا، ولم ألاحظ وجود رجال شرطة إلا عند محطات الاستخلاص بالطريق السيارة، أو في بعض تقاطع الطرقات لمراقبة المرور، ولقد فهمت عبر هذه المشاهدات طيلة إقامتي، أن أفراد الشعب الإيراني لهم ثقافة أمنية تجعلهم يثقون في الأداء الأمني لأجهزة دولتهم، فمنظومتهم الأمنية الداخلية ترتكز أساسا على التعاون الشعبي وكفاءة رجل الأمن وقدرته الفنية والقتالية، مما يجعل الناس يعيشون حالة من التفاعل الأمني في ما بينهم، فيحمون بعضهم البعض ويصونون أموالهم وأعراضهم وممتلكاتهم، فليس غريبا أن ترى في ساعات متأخرة من الليل امرأة لوحدها تسير في شوارع طهران لا تلتفت خوفا ولا تتثاقل رعبا... وهذه العقيدة الأمنية جعلت السلطات وكذا المنظمين للمؤتمر يوفرون أقصى حالات الحماية للضيوف دون أن يشعر الضيف بأي انزعاج أو حرج في تنقلاته، وحتى الإجراءات الأمنية التي شاهدتها عند حضورنا مع رئيس الجمهورية الإسلامية أحمدي نجاد، أو عند الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بحضرة الإمام علي خامنئي، لم تكن بالكثافة والإزعاج الذين ألفناهما عند تحركات الرؤساء والزعماء العرب، وأما التهديدات الأمريكية و"الإسرائيلية" فقد فشلت في تحقيق أهدافها، ولم تستطع اختراق جدار الإحساس بالأمن والأمان والطمأنينة عند الإيرانيين... الإنسان الإيراني له شعور عميق بالانتماء لأمة الإسلام يميّز حراكه السياسي، ويؤطر نشاطه اليومي، ويطبع سلوكه الاجتماعي، فبدافع الإيمان والأخلاق والتحضر وحب الوطن، لا تجد في طهران مرفقا عموميا في حالة غير الحالة الصحية والحسنة... فالنقل العمومي في طهران له أولوية مطلقة في العناية والصيانة، ونتيجة لذلك قضوا على الاكتظاظ والازدحام، وتجاوزوا بعقليتهم وباحترام بعضهم البعض كل مظاهر التخلف التي ألفناها في وسائل النقل العمومي، ففي طهران الناس يمتطون الحافلة للذهاب إلى عملهم، فلا يتأذون من تأخير أو ازدحام أو تحرّش، وإذا امتلأت الكراسي وجلس الجميع انطلقت الحافلة في سفرها، ومن بقي خارجها ينتظر بهدوء الحافلة التالية، ولا يجرأ أحد أن يفرض نفسه بالسفر وقوفا، وفي داخل الحافلة ينتظم المسافرون وحدهم وتلقائيا في أماكن خاصة للنساء وأخرى للرجال وعدم الاختلاط بهذا الشكل، فيه احترام واضح للمرأة، وفيه معنى حضاري وأخلاقي يرفع العلاقات بين أفراد المجتمع إلى مستوى الاحترام والتعاون، ولا يعني هذا أن المرأة الإيرانية مكانها وراء الجدران ولا تشارك الرجال في الشأن العام، بل هي على العكس من ذلك تماما، فالمرأة الإيرانية تعتني بجوهرها أكثر مما تعتني بمظهرها، ولذلك فهي تخالط الرجل في كل الأنشطة العلمية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل إنها تفعل كل ذلك بشخصية مستقلة عن الرجل وبأدب وأخلاق وبلا عقد نفسية، فلقد لامست هذا حين طلبتني أكثر من فتاة وامرأة يمثلن وسائل إعلام وقنوات فضائية محلية وأجنبية، لإجراء حوارات على هامش المؤتمر، وفي كل مرة أجد مخاطبتي على حياء وأدب، وعلى علم ومعرفة وسعة إطلاع، فالمرأة في إيران موجودة في كل مكان يحتاجها فيه وطنها بعفتها وثقافتها وعقلها، وحتى بساعدها لتبشر بانبعاث حضارة الإسلام من جديد... ثلاثة ليس لهم وجود في مدينة طهران، الازدحام والمقاهي والمتسوّلون.. أما الازدحام فقد انتفى بوجود بنية تحتية تتألف من جسور عملاقة وطرقات شاسعة، ومرافق عمومية تتسم بالنجاعة والانضباط، ومحيط نظيف وجميل.. وأما المقاهي فمكانها كما قيل لي، خارج أسوار المدينة وفي الاستراحات المنتشرة على الطرق السيارة، وأما داخل المدينة فالوقت لا يكفي لإنجاز الأعمال فكيف نصرفه على كراسي المقاهي.. وأما المتسوّلون فعدم وجودهم ليس دليلا على انعدام الفقر في طهران، فالفقر ليس له جنسية، والمحتاجون والفقراء والمتشردون بلا مأوى قار، تجدهم في أكبر عواصم الدنيا وفي أغنى بلدان العالم، ولا تجدهم في طهران لأن الفقراء في هذه المدينة يتعففون عن مد يد التسول، والتكافل والتضامن والفرض الإسلامي يضمن لهم قوت يومهم ويحمي أجسادهم ويحفظ كرامتهم... الثورة والحرب والحصار، ثلاثة تدافعوا ليصنعوا مجد إيران ويرشحها، لقيادة الحضارة الإسلامية، ويجعلها فاعلا أساسيا في إعادة كتابة التاريخ وتحريك الدورة الحضارية لصالح الأمة الإسلامية لتقود الإنسانية من جديد.. الثورة أرست نمطا مجتمعيا إسلاميا يتسم بالوحدة والانسجام والتضامن وسيادة الشريعة بشكلها الحركي والثوري على الدوام، وأسست نظام حكم جمهوري برلماني يتميّز بديمقراطية المؤسّسات، وهي ديمقراطية متقدمة في الوعي والتقيد بمصلحة الوطن، فلا فوضى في الحريات، وكل مؤسسات الدولة تحاسب بعضها البعض، وفي الأول والآخر،المواطن هو الرقيب وهو المستفيد... والحرب أحدثت في الشعب الإيراني نقلة نوعية، حيث سادت عندهم إرادة الغلبة والتفوق، فامتلكوا بذلك العلم والقوة، فحموا ديارهم واشتد ساعدهم ونشطت عقولهم.. وأما الحصار فإنه ضربة من قوى الاستكبار في العالم لم تقصم ظهورهم، ولكن شدت عزيمتهم، فاعتمدوا على أنفسهم أكثر فأكثر، فاكتفوا بما يزرعونه في أراضيهم واجتهدوا، فأعطت الأرض خيراتها، وانكبّوا على العلم والتعلم فأبدعوا في الاختراعات، وسدّوا حاجتهم من التكنولوجيا، فتطورت صناعتهم وابتكروا فيها، وهم تحت الحصار أبهروا الأمم الأخرى حين صارت لهم قوة صاروخية ضاربة وانجازات في غزو الفضاء، وبنوا وشيّدوا مدنهم بأبدع وأجمل الأشكال الهندسية، ولا يفوتني أن أذكر برج ميلاد الذي يعتبر رابع أطول برج في العالم، ولعله الأول في شكله الهندسي وبديع صورته وفخامة فضائه... لأن في طهران، الحياة عقيدة وجهاد، صارت طهران أروع مدن العالم وأجملها، وأكثرها تقدما وحضارة... دع عنك الاختلافات المذهبية بين سنة وشيعة، وانظر إلى طهران على أنها عاصمة المسلمين في العلم والعمل والتقدم والحضارة... في طهران مخاض ميلاد دورة حضارية جديدة... إذا زرت طهران مثلي فسينبئك هناك الإنسان والحجارة والتقدم والحضارة، لماذا يحاصرها الغرب، ولماذا يتربصون بها الدوائر لإدخالها في حرب عالمية مدمّرة... ولكن في طهران إرادة شعب لا تقهر. ناشط سياسي مستقل