دخل معتصمو "الصمود" شهرهم الثاني وهم قابعون ليلا نهارا بساحة الحكومة بالقصبة متخذين من الأرض فراشا متلحفين السماء بعد أن منعوا من نصب خيمة تقيهم ويلات البرد والمطر لذلك لا ترى بمكان الإعتصام غير كراسي وحاشيات. فلماذا يواصلون إعتصامهم في هذه الظروف القاسية وبماذا يطالبون؟ "نعم تحملنا هذا العناء حتى نعبر بطريقة سلمية عن مطلب شرعي وإستحقاق ثوري، وإتخذنا ساحة الحكومة بالقصبة موقعا لنا حتى يصل صوتنا إلى آذان من نسانا وتخلى عنا بعد أن مسك بزمام الحكم. هذا ما صرح به فريد خدومي أحد أعضاء المكتب الإعلامي لإعتصام الصمود بساحة الحكومة بالقصبة موضحا أن الإعتصام نظّم من طرف كهول كانوا في مطلع التسعينات شبابا وإستعملوا آنذاك وقودا لمعركة غير متكافئة بين بن علي وبين قياديي حركة النهضة وزج بهم في السجون وتعرضوا إلى شتى أنواع التعذيب، مضيفا أن الغاية الوحيدة من الإعتصام هي تفعيل مقتضيات مرسوم العفو التشريعي العام والمطالبة بجبر الضرر ورد الإعتبار ". وفريد خدومي هو سجين سياسي حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات قضى منها ثماني سنين ونصف قابعا في زنزانات السجون متعرضا لشتى أنواع التعذيب والتنكيل وهو الآن عاطل عن العمل، " أغلقت جميع الأبواب في وجهي وكلما عثرت على عمل إلا وتلحقني أيادي بن علي الشريرة لتخطف مني حقي المدني وتحرمني من الحياة الكريمة". وبيّن خدومي أن مرسوم العفو العام تم اصداره بعد ثورة 14 جانفي خلال فترة حكومة محمد الغنوشي وأمضى عليه الرئيس فؤاد المبزع بتاريخ 19 فيفري 2011 لكنه لم يفعّل ويحوّل إلى قانون علما أنه يشمل جميع المساجين السياسيين دون استثناء. وقال إن عدم تفعيل هذا المرسوم جاء نتيجة لتخوف الحكومة من التجاذبات السياسية حسب تقديره، وعن " عجز في إرادتها لا في امكانياتها". وأردف:" لأن مطلبنا ليس بالأمر المستحيل فهو يقتصر على رفع المظلمة وجبر الضرر وهذان المطلبان أساسيان لحفظ ماء الوجه وبهما نتجنب الوقوع في أخطاء كبيرة كالتفكير مثلا في رد الفعل بطرق فردية لأننا عندما نظل محرومين من ضروريات الحياة كحقنا في المعالجة وفي العمل بينما نرى جلادينا أحرارا طلقاء وفي بحبوحة من العيش، فيتملكنا غيض كبير يمكن أن يذهب بنا إلى الإنتقام والقصاص منهم بعد يئسنا ونفضنا أيدينا من حكومة بدت عاجزة عن إسترداد حقنا ". خيبة أمل عبد الحميد الطرودي أحد أعضاء لجنة تنظيم الإعتصام ذكر أنه إستأنف عمله وإلتحق بالوظيفة العمومية بعد الثورة لكنه لم يتحصل على جميع حقوقه إذ لم يفعل مبدأ التنظير الذي يسمح للسجين السياسي بالتمتع بنفس الإمتيازات والترقيات بمفعول رجعي يخول له تسلق سلم الترقيات، وكأنه لم ينقطع عن العمل لفترة من الفترات. وعبّر الطرودي عن خيبة أمله في أحزاب المعارضة التي كانت قبل الثورة تنادي بسن قانون العفو التشريعي العام لكنها بعد الثورة تنكرت لهذا الطلب ولم تتعاطى معه بإيجابية "حتى أن بعضهم تهكم على مطلبنا ليستفزنا بقوله: بكم تبيعون الكيلو الواحد من النضال ونحن نرد عليه وعلى من يشاطره الرأي: نحن ثرنا على بورقيبة وعلى بن علي فدفعنا مقابل ذلك فاتورة باهظة ولم ندفعها وحدنا بل دفعها معنا أقرباؤنا وأصدقاؤنا. وتابع قائلا بنبرة تدل عن تأسف شديد وتشاؤم كبير: " لم نلاحظ إلى اليوم جدية في التعاطي الإيجابي مع مطالبنا مستنكرا كذلك موقف سمير ديلو وزير حقوق الإنسان والعدالة الإنتقالية لمماطلته ولتصريحاته الأخيرة في حديث له "لموزاييك أف آم" بأن الإمكانيات المتوفرة حاليا لا تسمح بتفعيل آليات التعويض وأن الحكومة ستراعي الأولوية لأصحاب الوضعيات الإجتماعية الصعبة. مؤكدا على رفض المعتصمين لهذه التجزئة". ملف حقوقي..وتسوية جماعية وأبرز المعتصمون أن ملفهم ليس ملفا إجتماعيا بل حقوقيا بإمتياز لذلك يطالبون بتسوية جماعية ويرفضون العودة إلى العمل دون تنظير ودون إمتيازات مضيفا أن المسؤولين إمتنعوا عن الحضور للتفاوض معهم خشية من الإحراج وأن الحكومة مكنتهم من جلسة إستماع لا أكثر، كما وعدتهم بتكوين لجنة لتسريع تفعيل العفو التشريعي العام بين رئاسة الحكومة ومنظمي الإعتصام وذلك موفى شهر مارس الجاري. منذر السقني أمضى أربعة سنوات من عمره داخل السجن وحرم من عمله إذ كان موظفا بشركة خاصة وتعرض سنين طويلة لضغوطات المراقبة الأمنية من مداهمات ليلية فقد عبر عن إستيائه وحزنه الشديدين من حكومة تبخل عليه بمتطلبات الحياة في حين ضحى بأحلى فترات حياته من أجلها. مضيفا: " أنا أستغرب صمت الحكومة المتواصل فنحن لا نطلب منها المستحيل ولا نطلب حلا عاجلا بل يمكن أن يكون آجلا لكن يجب تفعيله أولا حتى نضمنه لذلك نطالب بضرورة ضبط برنامج عمل محدد زمنيا وإستراتيجية واضحة لتفعيل العفو متابعا بصوت متلعثم وكله أسى " نحن لا نطلب صدقة ولا نتسول بل نطلب رد إعتبار على ما لحقنا من ظلم حال دون إندماجنا في المجتمع وأعاق طموحاتنا ومستقبلنا مبينا أنه إلى اليوم يوجد سجناء سياسيين مفقودين ولا تعلم عائلاتهم عنهم شيئا لذلك "نطالب بفتح تحقيقات في شأنهم حتى يتم التعرف على مثواهم فتقر أعين عائلاتهم. سجن وتعذيب بمجرد الشبهة حدثنا منصف أولاد علي الذي قضى عشر سنوات في غياهب السجون عن سنوات الجمر قائلا بصوت ممزوج بألم وحرقة :" ما شاهدته في تلك السنوات من ظلم وقهر وتعذيب لن يمحى أبدا من ذاكرتي ولا يمكن لأحد أن يعوضه عنه مهما أوتي من قوة وجاه ومال". واضاف وكله حسرة على شبابه الذي قضاه في زنزانة السجن دون جريمة إقترفها:" "قضيت في السجن عشر سنوات ذقت خلالها شتى أنواع العذاب والتنكيل وما يحز في نفسي أكثر ما لحق بعائلتي من عذاب بسببي، فقد دخلت الشرطة إلى منزلنا بغتة ودون إستئذان وأرعبت الجميع وخاصة أمي التي شلت عن الحركة من آثار الصدمة والفاجعة ثم توفيت قبل خروجي من السجن ولم يتسنى لي رؤيتها.. كما رغموا زوجتي على تطليقي بتشويههم لي وإقناعها بأنني لن أخرج أبدا من السجن . ووصف السجين حسن القاهري الذي قضى في السجن سنتين البعض من عذابه قائلا: " كان معذبي في السجن يضع البترول في وعاء من الماء ويطلب مني إستنشاقه لمدة زمنية ثم يعيد الكرة مرات عديدة حتى أختنق ويغمى علي متابعا حديثه بصوت مختنق.." وروى كيف أن شرطيا داهم منزله بعد خروجه من السجن على الساعة الثالثة صباحا ليرمي به في مركز الشرطة حتى يبعده عن إبنته التي تحتضر فماتت دون أن يكون حاضرا"، وتسائل: "فعن أي ثمن يتحدثون وبأي ثمن يمكن أن أنسى هذا المشهد الذي لايفارقني في منامي وفي يقظتي ".. أوضح زهير مدين الذي بقي في السجن سنتين ونصف بتهمة الإنتماء إلى الشباب المدرسي الإسلامي كيف أن لقبه كان وبالا عليه وسبّب له تتبعات متكررة لتشابهه بلقب عباسي مدني القيادي الإسلامي الجزائري مستطردا :" حرموني لذة التعلم فقد كنت متفوقا في دراستي وكنت أدرس في السنة السابعة رياضيات لما تم إيقافي ولا أنسى تلك الأيام السوداء التي قضيتها بدهاليز السجن فقد عذبوني بعذاب خاص بي وكانوا بضربوني على رأسي بزجاجة وكان ضربهم غير مبرح لا شفقة بي بل ليكرروا الضرب إلى ما لا نهاية وإلى أن أفقد وعيي دون أن أفقد حياتي." العائلة والأصدقاء يعذبون أيضا لكن ما حز في نفس مدين، وأشعره بالذنب هو ما أصاب عائلته القريبة والموسعة من عذاب بسببه فقد صادروا ممتلكات والده فأصبح يعاني من إضطرابات نفسية وأمراض مزمنة. أما محسن الجويني فقد حكم عليه بسبعة وعشرون سنة تهمته الوحيدة وكسابق إخوانه الإنتماء إلى حزب غير مرخص فيه وقد قضى في السجن سبعة عشر عاما أصيب على إثرها بإعاقة ذهنية، كما سجن أيضا أخاه منير التوهامي الجويني لنفس السبب وقضى إثنا عشر سنة في السجن خرج منه بإعاقة عضوية، والإثنان متحصلان على بطاقة معاق. بشير الخلفي البالغ من العمر 52 سنة روى كيف حكم عليه بواحد وخمسين سنة سجنا لكنه قضى منها سبعة عشر سنة مبرزا كيف تم نقله من سجن لآخر دون سبب ولا لشيء إلا للتنكيل به ولتعذيب عائلته التي كانت تتعرض إلى مشقات وعناء السفر لتأتي من تونس العاصمة لتزوره بسجن حربوب بمدنين، وبعد وصولها يعمد العون المسؤول إلى تركها آخر الزوار لتلتقي به مدة لا تتجاوز الخمس دقائق. ليستطرد قائلا:" أضعت أوج شبابي في دهاليز السجون ويستكثرون عليّ جبر ضرر ورد إعتبار، فهذا إن دل على شيء فهو يدل على أنانية مفرطة وحبّا للذات وإبتعادا عن روح التضامن والتآخي. أما حاتم الحمروني البالغ من العمر 48 سنة والمتحصل على شهادة في الدراسات الإسلامية فقد أوضح أنه اعتقل في سن السادسة والعشرين وقضى ثلاث عشر سنة داخل أقبية السجون".. كما أنهم لم يكتفوا بإعتقاله بل إعتقلوا والده وعذبوه إلى أن أصيب بنزيف داخلي سبب له في شلل عضوي متابعا حديثه وعلامات الغضب تبدو على وجهه " فهل هذا التعويض سيرجع لي أبي المتوفي وسيعيد لي شبابي الذي سرق مني"؟ وشدد قائلا:" معتصمو الصمود لا يطالبون بمقابل بل يطالبون بتعويض نتيجة تعذيب وتنكيل لأنهم أنفقوا أعمارهم وحرموا من أطفالهم وآبائهم فداء لهذا البلاد " فلسنا نطلب صدقة وتعويضا على نضالنا وإنما نطلب رد الإعتبار وجبر الضرر الذي لحقنا جراء المظلمة، إذ كنا أكباش الفداء وسلبنا جميع حقوقنا المدنية والوطنية من أهمها حريتنا وحقنا في العمل." وأضاف:" سنواصل إعتصامنا وسنستمر فيه وقد نصعد فيه ونطوّر من أشكاله محافظين دوما على سلميته وعفويته وذلك لنبل رسالته ولأننا لا نريد من ورائه إلا تفعيل مقتضيات العفو التشريعي العام ورد الإعتبار".