"الشعوب التي تقايض أمنها بحريتها تخسر الاثنين معا" هذا ما عشناه تماما خلال عهد بن علي. فهناك حاليا أكذوبة سخيفة رائجة لدى الرأي العام ويروجها عدد من وسائل الإعلام وهي أننا فقدنا أمننا منذ الثورة بينما الواقع أن أمن المواطن كان في مؤخرة اهتمامات السلطة البائدة وأن أمنها هي ان"أمن الحاكم" كان في صدارتها. فالجريمة بمختلف أنواعها كانت مزدهرة آنذاك وفي مقدمتها "البراكاجات" فزاعة اليوم ونجاعة الشرطة في هذا المجال كانت تكاد تكون منعدمة . والدليل على ذلك أن جميع الأمنيين يعرفون ان الإحصائيات المتعلقة بالأمن العمومي كانت مزيفة والأرقام مغلوطة وأن ما يقدم سنويا للبرلمان عند مناقشة ميزانية وزارة الداخلية من حيث نسبة النجاح في كشف الجرائم لا أساس له من الصحة. ودون حاجة إلى شهادة الأمنيين في هذا المجال فمن منا لم يتعرض خلال العقدين الأخيرين على الأقل مرة إلى عملية "براكاج" أو إلى سرقة بالخلع لمنزله وهل حدث ان تم التعرف على الجاني واسترجاع المسروق؟ لقد كان ذلك لا يحدث إلا نادرا جدا عن طريق الصدفة او بإعانة من المواطن المتضرر. وهل هناك من يمكنه الادعاء انه كان يحس الطمأنينة إذا غادر منزله لأيام في عطلة أو سفر وتركه دون حراسة أو يدعى انه كان يحس بالأمن والآمان كلما اجبر على الخروج ليلا الى الطريق العام لقضاء احد الشؤون المستعجلة؟ إن الحقيقة الواضحة التي لا شك فيها هو أن الوضع كان سيئا في هذا المجال وانه ازداد سوءا بعد الثورة فهذا لا نقاش فيه والمغالطة تتعلق أساسا بتجميل هذا الوضع السيئ السابق وتغطيته بالمساحيق. رفع الغطاء فلماذا استشرى إذن بهذه الصفة الإحساس بعدم الأمن بعد الثورة وتعاظم مع مر الأيام إلى أن أصبح يغذي لدى البعض حنينا مخفيا أو مفضوحا إلى "امن بن علي" في تعارض مع ما كنا نعيشه على ارض الواقع وفي قطع غريب مع صورة رجل الأمن الكريهة البغيضة في عهده؟ أن الأمر يعود إلى جملة من الأسباب المختلفة في مقدمتها أن الأمور كانت مغطاة بغطاء سميك خلال العهد البائد والمعلومات شحيحة إن لم تكن غائبة تماما فوسائل الإعلام مكبلة ملجمة والمواطن لاحق له إطلاقا في المعلومة أما اليوم فقد رفع الغطاء فجأة وخرجت رائحة العفونة وأصبحت الشفافية هي القاعدة وأحيانا برغم انف الماسكين بالسلطة كما أن المبالغة والتهويل وحتى الكذب والتزييف والأمثلة لا تحصى ولا تعد في هذا المجال أصبحت عملة رائجة أما بدافع جلب القارئ بالنسبة للصحف أو المستمع والمتفرج بالنسبة للإذاعات والتلفزيون وأما لنقص في المهنية والتكوين والتأطير للصحفيين وإما لدوافع وحسابات سياسية في تناف مع ضوابط المهنة وأخلاقياتها. وفي ظل الواقع الجديد دخلت أخبار الجريمة بصحيحها وكاذبها البيوت عبر الإذاعة والتلفزيون لتصل إلى الكبير والصغير بعد أن كانت حكرا على قراء الصحف المحدودي العدد في بلادنا، وبالتالي أصبح وقعها على الرأي العام أقوى وأعمق، وقد زادت الأنترنات الطين بلة بما أنه أصبح يمكن لأي شخص أن يفجر "قنبلة" إعلامية على هواه وفي أي وقت وظرف. الخوف فالهمجية إلا أن هناك أيضا أسبابا أخرى تقف وراء هذا الإحساس هي أكثر جدية، فاثر الثورة وما إن زال الخوف من "الحاكم" الذي كان يسير المجتمع والذي كان الطريقة الوحيدة ل"التعايش" التي فتح عليها "جيل بن علي" عينيه حتى خرجت النعرة الجهوية والعروشية، وأيضا الهمجية (التي كانت نائمة في النفوس بفعل الخوف) إلى العلن وأصبحت تتجلى كل يوم في الشارع أكثر فأكثر، مغذية بدورها الإحساس بوجود انفلات عام في البلاد لا رادع له ولا مأمن منه وتهديد لسلامة الأشخاص في الفضاء العام يمكن أن يتجسم في أي لحظة. ولكن قد تكون أكثر الأسباب جدية هي: الهجومات المادية والمعنوية المتكررة على أعوان الأمن، فمقراتهم تهاجم بالمولوتوف وتحرق، والأعوان انفسهم يتعرضون إلى اعتداءات متواترة بحيث أنهم أصبحوا يعكسون صورة لدى الرأي العام بأنهم عاجزون هم انفسهم عن حماية أنفسهم ومقراتهم، فأنى لهم والحال هذه أن يحموا المواطنين؟ تواتر عمليات حجز الأسلحة والذخيرة في مختلف أنحاء الجمهورية وحصول عمليات ارهابية مدوية كان لها وقع كبير لدى الرأي العام داخليا وخارجيا، وكان للعملية الغادرة التي استهدفت المناضل شكري بلعيد وقع الزلزال المدوي في البلاد. بروز بعض المظاهر الدخيلة على مجتمعنا في القيافة واللباس المقترنة بتهديدات جدية لنمط العيش التي تعود عليه التونسيون بعضها أخذ منحى ماديا. الانفلاتات الاجتماعية والاعتصامات في عدد من جهات البلاد التي تقترن غالبا بأعمال قطع طريق ونهب وسلب. مسؤولية من؟ إن الأمن الكاذب الزائف لعهد بن علي كان من المفترض أن يعوضه اثر الثورة أمن حقيقي فعلي وأن ينجح المجتمع في الانتقال من وضع سيء بكل المقاييس الى وضع أفضل تدريجيا، فالثورة خلفت نظاما ديمقراطيا ناشئا، من أولى أولوياته نظريا، أن يعيد النظر في المعادلة القديمة بحيث يزول الفصل بين امن الحاكم والمحكوم ويصبح امن الواحد من امن الآخر. وأيضا أن يخضع جهاز الأمن إلى إعادة تأهيل حقيقية ليستوعب مقتضيات المرحلة الجديدة من حيث احترام حقوق الإنسان وكرامته ولكن دون تفريط في حقوق المجموعة وان يتم النأي به أي الأمن عن أي تجاذبات سياسية لكي تصبح القيود الوحيدة لعمله تلك التي تضبطها القوانين ولا شيء غيرها وكل هذا لم يحدث الى اليوم، بعد عامين وأكثر على الثورة وهي فترة كافية نظريا لتحقيق أولى خطوات الاصلاح. والسؤال المشروع هو طبعا لماذا لم يحدث ذلك؟ اذا حاولنا تبين المسؤوليات وراء هذا "الاخلال" الذي كانت له تداعيات خطيرة جدا على البلاد داخليا وخارجيا اذ شوه صورتها كثيرا واضر بقطاع رئيسي في اقتصادها وهو السياحة فإننا نجد مسؤولية السلطة التي انبثقت عن انتخابات 23 اكتوبر واضحة الا اننا نجدها أيضا متوزعة على عدد من الفاعلين الأساسيين على الساحة كما لا يجب ان نهمل أيضا معطى خارجيا متمثلا في الكميات الهائلة من السلاح التي خرجت من مخازن القذافي والتي تسرب جزء هام منها إلى تونس. التفكير المعلب إن ما حدث في هذا المجال يبيّن للأسف انه ليس لدينا نخبة حقيقية، نخبة تستحق هذا الاسم، في تونس تكون قادرة على فهم رهانات المرحلة وتحدياتها اثر سقوط بن علي ورسم التمشي العقلاني الوطني لانجاح المرحلة الانتقالية وبناء حجر الأساس لهيكل النظام الديمقراطي المنشود متعالية قدر الإمكان عن الحسابات الضيقة الآنية شخصية كانت او حزبية وقادرة على الانخراط في عمل جماعي من اجل الوطن. فما حصل هو ان الهاجس الاول لمن وصلوا الى السلطة وامسكوا بمقاليدها كان اعداد الأرضية الملائمة للبقاء في سدة الحكم اطول مدة ممكنة وانصرفت جهودهم الى ذلك عبر السعي للاستيلاء على كل المواقع والمراكز الحساسة تحسبا للمواعيد الانتخابية القادمة مع جرد حساب للقوى التي يمكن ان يعولوا عليها في ذلك ومن بينها ما يعرف بالسلفيين "علمييهم" و"جهادييهم" واغمضوا الأعين تماما عن الخطر الذي يمثلونه على النظام الجمهوري والذي يعلنون صراحة السعي لتقويضه وعدم الاعتراف بقوانينه "الوضعية" فكثرت الاستعداءات على الأمن العام وعلى مؤسسات الدولة وقوانينها لتختم في النهاية بمقتل شكري بلعيد مرورا بالاعتداء على السفارة الأمريكية. اما المعارضة فان هفوتها الرئيسية هي انها لم تفصل في صراعها مع خصمها السياسي الذي هزمها في الانتخابات أي النهضة بينه وبين الدولة التي أصبحت بفضل الثورة دولة كل التونسيين. فقد انصرفت كل جهودها لمحاولة اضعاف هذا الخصم بشتى الطرق، وهذا امر مشروع ولا ينازع في نظام ديمقراطي الا انها عجزت عن ان تتفطن الى ان اغلب جهدها ينصرف في الواقع الى اضعاف الدولة ومؤسساتها وهرسلتها وشلها. فكما أنه من المرفوض قطعا التسامح مع الانفلاتات السلفية والتهوين منها على امتداد اشهر طويلة حتى وصلنا الى الاعتداء على مقرات البعثات الاجنبية والاغتيال السياسي فإنه ايضا من المرفوض قطعا ايضا أن تتم "شرعنة" مظاهر الاخلال بالامن العام والاعتداء على الاشخاص والممتلكات العامة ومقرات السيادة او تعطيل ادوات الانتاج كما يحدث مثلا في الحوض المنجمي منذ اشهر مديدة والدفاع عما لا يمكن تبريره. فالفقر والبطالة والتهميش الموروثة عن عقدين او ثلاثة من الحكم الفاسد لا يمكن أولا محاربتها في حيز زمني وجيز وثانيا لا يمكن أن يبرر اي استعداء على قوانين البلاد والامن العام والاشخاص والممتلكات خاصة وعامة. فالدولة الديمقراطية هي دولة علوية القانون بامتياز وإن تعطيل الانتاج والاضرار بأدواته من شأنهما أن يزيدا المشاكل الموروثة حدة وأن يؤخرا إيجاد الحلول لهما وقد انساق قسم هام من الصحفيين ووسائل الإعلام للأسف في هذا التيار، أحيانا عن سوء نية، وفي أحيان اخرى مسايرة ل"التيار العام". فمنذ الثورة طغى على المشهد العام ما يعرف بLe politiquement correct وهو مفهوم ظهر في الولاياتالمتحدة منذ نصف قرن أو أقل ويعني بصفة عامة التفكير الذي يجب أن يتحلى به كل من يطمح الى الانتماء الى "النخبة النيّرة" من المجتمع وأن يبعد عن نفسه تهمتي الرجعية والتخلف ويتلخص في جملة من المفاتيح اذ يجب ان تكون ضد السلطة ورأس المال وضد العنصرية ومع الاقليات العرقية والدينية، وفي مقدمتهم المثليون. وبالنسبة لنا، أصبح politiquement correct بعد الانتخابات هو أن تكون ضد النهضة في كل شيء، ومع اتحاد الشغل في كل شيء أن تكون ضد البوليس وضد السلطة، ومع المهمشين والعاطلين والفقراء حتى عندما يقطعون الطريق ويحرقون وينهبون، وأن تكون مع جرحى الثورة وعائلات الشهداء حتى عندما تقترن تظاهراتهم واحتجاجاتهم بتجاوزات ومثل هذا الواقع يحول حاليا دون ارساء حوار حقيقي لايجاد الجواب المناسب وفي أسرع وقت على سؤال مفصلي وهو أي أمن نريد لبلادنا خلال هذه المرحلة الانتقالية ولما بعدها؟، أمن "رخو" متسامح على الطريقة الاسكندينافية والانجليزية حيث كان البوليس لا يحمل سلاحا البتة مهما كان نوعه ام أمن مفتول العضلات وحازم على الطريقة الامريكية يضع امن الجماعة قبل أمن الفرد عندما لا يكون هناك مفر من الاختيار بينهما. إن عديد المعطيات والدلائل تشير إلى أن هناك حرصا مشتركا من كافة مكونات الطيف السياسي داخل السلطة أو خارجها والجمعياتي و"النخبة" على تجنب طرح هذا السؤال الحارق والاستعجالي، ومحاولة الإجابة عليه. فلكل حساباته غير المعلنة وأولوياته الخفية. فضبابية الوضع الحالي، هي في مصلحة الماسكين بالسلطة، لتنفيذ أجندتهم في التغلغل في مفاصل الدولة وفي التهرب من استحقاق تحييد الأمن لجعله جمهوريا يخضع للقانون لا لمبدإ "التعليمات". وهو في مصلحة من هم خارج السلطة لأنه يمكنهم من "شيطنة" خصومهم، وهو ما يبدو للأسف الاستراتيجية الوحيدة التي يحتكمون إليها والتي لم تثبت لها إلى اليوم أي جدوى أو نجاعة في تغيير موازين القوى خلال الاستحقاقات الانتخابية القادمة وبين هذا وتلك وتضيع مصالح البلاد والعباد.