ليس من باب المبالغة أو تزييف الحقائق إذا قلت أنه يكفي القيام بجولة في أروقة قصر المرمر بسقانص بالمنستير ومتحف أو"بيت الحبيب بورقيبة" في تسميته الحالية بعد أن شهد أشغال إعادة تهيئة وصيانة ليقف زائره على نَفس حقبة هامة من تاريخ بلادنا كانت البصمة البورقيبية بما فيها من تميز وخصوصية وجمالية وذوق رفيع حاضرة فيها بامتياز حتى يذهب إلى الأذهان أن الراحل كان فعلا مختلفا ويرتقي إلى مرتبة الزعيم والفنان والمتعلم. فمنذ الدخول إلى بهو المعلم تجد السيارة "المرسديس" و"ربرويس رويس" التي لا يوجد منها في العالم سوى خمس سيارات تعود كل واحدة منها لشخصيات كبيرة في العالم على غرار الرئيس الأمريكي الراحل جون كيندي وسانقور وغيرهم. فيما تحدث البعض عن جلب سيارة أخرى كانت أهدتها له الملكة اليزابيت وهي من بين ثلاث سيارات يملكها الرئيس المحتفى به. ورغم أن أشغال إعادة التهيئة والصيانة والتعقيم لا تزال جارية فإن الفضول وثراء الفضاء ورمزيته ودلالته حمل الاعلاميين وغيرهم ممن حضروا أول أمس هناك للوقوف والتساؤل حول كل الجزئيات في القصر. وغير بعيد عن البهو خصص فضاء لعرض صور الزعيم الراحل بالأبيض والأسود وبدا بابتسامته ونظرته الثاقبة كأنه يبعث برسائل لكل التونسيين ليكونوا يقظين متفائلين وحالمين بوطن ومنظومة فكرية ترتقي بمنزلة الانسان وتحث على العناية بما وهبه الله من نعمة العقل حتى يوظف في ما جعل حياة الانسان ممتعة. من الطابق الأرضي إذا تبدأ رحلة العودة إلى جزء من تاريخ تونس التي كان الحبيب بورقيبة طرفا في نسجها إلى جانب عدد من رموزها الفكرية والسياسية والثقافية ليعطيها طابعا شرعيا رسميا من موقعه كأول رئيس للجمهورية. ليكون الغوص في هذه المرحلة بما حملته من ذاكرة وطنية زاخرة بأسس البناء بصعود الطابق الأول أين تترامى قاعات في ألوانها الزاهية الجلوس في أروقة القصر الفسيحة والجدران المزخرفة بالمعادن وأجمل أنواع الخزف والنحاس وغيرها من المعادن الثمينة. ليكون الوصول إلى قاعة الاجتماعات التي كانت شاهدة على عديد القرارات المصيرية في تاريخ هذاه البلاد باعتبار أن الرئيس الراحل كان كثير التردد على هذا القصر خاصة خلال فصل الصيف مثلما أكد ذلك بعض أبناء الجهة ممن كانوا مقربين منه. فبدا الإضاءة والتبريد والتكييف كأنها قُدت على مقاس عالم زعيم يحب الحياة في أبهى تجلياتها وسعى إلى تحقيقها في هذا الفضاء الخاص به والذي لم تكن تشاركه فيه سوى زوجته السابقة الراحلة وسيلة بن عمار وبعض الشخصيات السياسية التي كان يعول عليها في حله وترحاله على غرار العويدي الذي تقرر أن يحمل مكتب الاستقبال اسمه. ليكون في الطرف الثاني من هذا الفضاء الرسمي الذي يخصص للقاءات السياسية والعمل، الفضاء الخاص بالرئيس الراحل والمتمثل في غرفة نومه وأخرى غرفة نوم طليقته. فبدا سريره بكامل أثاثه الفاخر وبعض ملابس النوم. كما هو الشأن بالنسبة لغرفة نوم طليقته بكامل خصوصياتها. وغير بعيد عن ذلك نجد مكتبته الخاصة التي يتوسطها الكتاب الذي كان أهداه له الرئيس الأمريكي رونالد ريغن. القاسم المشترك في كامل فضاءات القصر هو وجود عدد كبير من أجهزة المذياع القديم وأخرى لأجهزة الاستماع إلى الاسطوانات التي كانت منتشرة في كل ركن من أركان القصر الذي يمتد على مساحة خمسمائة متر مربع. مما يعني أن هذا الرجل كان قريبا من الفنون والثقافة وكان قريبا من المادة الإعلامية. فيما خصص الطابق الثاني إلى ابنته بالتبني هاجر والتي حافظت أيضا على كامل خصوصياتها. فكان أثاث هذا القصر متقاربا من حيث الذوق والألوان التي تتميز كلها بكونها زاهية وجميلة سواء في الأثاث أو في التزويق أو التجهيزات. وقد بدا المتحف شاهدا حيا على مرحلة تتجاوز شخصية الحبيب بورقيبة لتتعداه إلى مرحلة تاريخية بما عرفته من نضالات وطنية وبحث متجدد من أجل تطوير المنظومة الفكرية والثقافية للإنسان التونسي.
"بيت بورقيبة" بالمنستير بعد إنجاز المرحلة الأولى من ثلاث مراحل 1163 قطعة متفاوتة القيمة ورسائل بورقيبة للعرض ◄ دعوة رسمية لكل من يحتفظ بأثاث أو تجهيزات من القصر أن يعيدها إلى مكانها بقطع النظر عن الأبعاد السياسية والقراءات الثقافية والمادية والتأويلات المختلفة فإن مشروع تحويل قصر المرمر بالمنستير لأول رئيس للجمهورية التونسية إلى متحف وتسميته "بيت بورقيبة" بادرة جماعية وتعاون بين رئاسة الجمهورية في مستوى المتابعة والتمويل ووزارة الثقافة في مستوى الإشراف الفني والتقني لاقت استحسان عديد الجهات لاسيما أنها تتزامن مع ما تشهده الفترة الأخيرة من تجاذبات حول الجمهورية بمقاييس حداثية حٌسِبت على السياسة البورقيبية في مستويات اجتماعية وثقافية وعلمية بدرجة أولى. كنا هناك أول أمس حيث افتتح المتحف رسميا. وقدم عدنان منصر الناطق الرسمي لرئاسة الجمهورية جملة من المعطيات حول هذا المشروع الذي لا تزال أشغاله جارية خلال لقاء إعلامي بقصر المرمر بسقانص بالمنستير شاركه فيه البعض ممن ساهموا في انجاز هذا المشروع. نذكر من بينهم هاجر الأنقليز المكلفة بالدائرة الثقافية برئاسة الجمهورية والدكتور سماح الصرارفي مختصة في المحافظة الوقائية للقطع المتحفية وجهاد سويد ممثلة المعهد الوطني للتراث بالمنستير ورياض الحاج سعيد في المقابل شهدت هذه المناسبة غياب ممثلين عن وزارة الثقافة باعتبار أن المعهد الوطني للتراث ووكالة احياء التراث والتنمية الثقافية أشرفا على اشغال المتحف. معلم المصالحة مع الوطنية واعتبر الناطق الرسمي لرئاسة الجمهورية أن هذا المعلم هو أقل ما يمكن أن تقوم به رئاسة الجمهورية من أجل مصالحة التونسيين مع تاريخهم من ناحية على اعتبار أن الزعيم الراحل هو أول رئيس للجمهورية التونسية ثم أن هذا المعلم كان شاهدا على مراحل تاريخية هامة في بلادنا لأن آلاف التونسيين قد مروا من هذا القصر. كما فسر هذا الخيار من منظور سياسي قائلا أن العهد السابق الذي كان يحكم البلاد دون شرعية، قد أهان الزعيم الراحل. فحاول خلال13 سنة تدميره واتلاف كل ما له علاقة بالفترة التي قضاها في رئاسة الجمهورية واضاف أن رئاسة الجمهورية تسعى من خلاله الى اعادة الاعتبار لمرحلة تاريخية هامة في تاريخ تونس والتونسيين وخلق تقاليد في الاعتراف بالجميل لكل من خدم البلاد وساهم في ارساء مقومات الدولة الحديثة. نهب واتلاف وقال نفس المتحدث أن قصر المرمر بالمنستير تعرض إلى عمليات نهب وتدمير طالت عددا كبير من محتوياته وتجهيزاته منذ أن قررت رئاسة الجمهورية في عهد بن علي سنة 2002 أن يكون على ذمة وزارة الثقافة. مما انجر عنه حسب تأكيده اتلاف وضياع عديد التجهيزات والأثاث والأشياء القيمة للزعيم الراحل فضلا عن تعرض النحاس والمواد المعدنية التي تتركب منها النافورات وغيرها من الكوابل الكهربائية للسرقة خاصة في فترة ما بعد سقوط نظام المخلوع. ووجه دعوة خلال هذه المناسبة إلى كل من يحتفظ ببعض الأثاث والتجهيزات سواء من ابناء الجهة أو غيرها إلى ارجاعها إلى مكانها الطبيعي لأنه اعتبر ذلك جريمة في حق الذاكرة الوطنية. مركز توثيق بالمتحف من جهة أخرى بيّنت هاجر الأنقليز أن ما يقارب 1163 قطعة متفاوتة القيمة تم جردها ستكون في المتحف بعد اكتمال اشغاله باعتبار أنه سينجز على ثلاث مراحل يتعلق الجزء الأول بالطوابق الأرضي والأول والثاني وذلك بتحضير كل ما له علاقة بالأثاث. ليكون الجزء الثاني في موفى شهر جويلية القادم حتى يكون جاهزا في ذكرى ميلاد الزعيم الراحل ويتعلق بكل ما له علاقة بالوثائق. وأفادت أنه سيتم خلال تلك المناسبة اعلان بعث مركز توثيق للباحثين في دراسات الفكر البورقيبي بالمعلم إضافة إلى إلى قاعة محاضرات. وبيّن رياض الحاج سعيد المختص في الأثار أن هذا المتحف يعد تتويجا لمجهود عديد الجهات واحياء للروح البورقيبية التي لاتزال نسائمها الحداثية تهب على تركيبة المجتمع التونسي بجميع مكوناته. من جهته أفاد جهاد سويد أن تحويل هذا المعلم إلى متحف يعد بادرة على قدر كبير من القيمة والرمزية في هذه المرحلة تحديدا ونزله في سياق العمل على تكريم والاعتراف بالجميل لأبناء تونس الذين اخلصوا لها. واعتبر هذا المشروع الذي يأتي ليثري المسلك السياحي الثقافي بولاية المنستير ليربط القصر بمقبرة آل بورقيبة مرورا بحي الطرابلسية. وذلك بعد تسييج المتحف في مرحلة أخيرة. المتحف بالأرقام أكثر من 120 صندوق أرشيف تم العثورعليها بين القصر الرئاسي بقرطاج وقصر المرمر بالمنستير تتضمن وثائق لأنشطة قام بها الزعيم الراحل ستكون في المتحف إضافة إلى ما يقارب 680 ألبوم صور بالأبيض والأسود تؤرخ لزيارات قام بها الحبيب بورقيبة إلى الخارج أو أثناء قيامه ببعض الأنشطة. فضلا عن عديد التسجيلات الصوتية النادرة. وفيما يتعلق بتكلفة المشروع بين الناطق الرسمي لرئاسة الجمهورية أنها تتجاوز 2 مليون دينار للصيانة وإعادة التهيئة ومن القطع ذات الخصوصية الفريدة نذكر نافورة القصر التي قال عدنان منصر أنه من المنتظر أن تتولى صيانتها جهات تركية. وتعتبر الرسائل التي كان يرسلها الزعيم الراحل إلى الرئيس المخلوع أو إلى ابنه من ابرز محتويات المتحف وهي في مجملها رسائل استغاثة يطلب فيها العناية به ويشكو من الاهمال والتعب وذلك بعد تدهور حالته الصحية بسبب الاهمال الذي تعرض له في إقامته الجبرية بقصر مرناق أو أثناء نقله إلى دار الوالي بالمنستير إلا أنه لم يكن يتلقى أية اجابات فشعر بالإهانة ومن ذلك الوقت توقف عن الكتابة لبن علي وأصبح يراسل ابنه الحبيب بورقيبة الابن الذي أصبح هو من يراسل الرئيس المخلوع من أجل نقله إلى مسقط رأسه. ومن بين ما تضمنته الرسائل أيضا الاقتراح الذي تقدم به ملك المغرب الراحل الحسن الثاني للمخلوع من أجل انقاذ الزعيم الراحل وذلك بشراء قصر سقانص بالمنستير ليقدمه هدية له حتى يستريح من معاناته ولكن بن علي رفض. في المقابل قبل بنقله للإقامة بدار الوالي بالمنستير حتى يكون على بيّنة من تحركاته رغم أنه كان في حالة صحية يرثى لها. ومن الرسائل كذلك نذكر تلك الرسائل الحميمية لزوجته السابقة وسيلة بن عمار وتم طبع هذه الرسائل في كتاب عنوانه "الكتاب الأبيض لحياة الرئيس الحبيب بورقيبة". ومن بين ما تضمنته الرسائل ان بورقيبة بلغ درجة من اليأس إلى حد التفكير ومحاولة الانتحار وقد نجا من ذلك بأعجوبة. وأكدت حاجر الإنقليز ان جانبا كبير من الرسائل والوثائق الهامة وجدت مهملة بالقصر وقد طالتها الرطوبة والاتلاف كالنسخة الأصلية من الدستور التونسي الذي كان مكتوبا بخط اليد وغيرها من الوثائق الهامة التي تمت صيانتها حتى تكون صالحة للعرض في المتحف.