وأنا أقرأ هذا المقال للزميلة روضة بن عثمان، تساءلت لاكثر من مرة لم لم أفهم محتوى هذا المقال ولا أنا فهمت حتى القصد منه. ولعلّ عدم فهمي كان يتعلّق بالبديهيات وخلع الابواب المفتوحة، إذ وجدتني أبحث عما وراء السهل الممتنع مما يكتب. فالاستاذ الممتاز هو أستاذ ممتاز والجامعة الممتازة هي جامعة ممتازة وقد عرفت وأعرف أساتذة متميّزين بكفاءات عالية وأعرف جامعة تونسية متميّزة جدا بين جامعات تونس لا أذكرها حتى لا أنعت ب... وتخامرني بعض الذكريات وأخص واحدة منها بالتفصيل وقعت وأنا من بين الاساتذة أقلّهم حنكة سياسية، ولكن تعلّقي بما هو بديهي مرة أخرى جعلني أبحر دون ضمان طوق نجاة. طلبت إلى الوزير ذات مرة بعد عرض مفصل لحالة الرداءة التي كانت عليها مستويات فهم الطالب في الطب للغة الفرنسية، طلبت إليه أن يسمح لي بالتدريس باللغة العربية فلم يجبني. وبعد عام أعلمته بأنني سوف أدرّس باللغة الوطنية ورجوته إعلامي إن كان له مانع. فلم يجبني. ولانني كنت ولا زلت أصرّ إلى اليوم على ذلك بأنّ التدريس في الجامعة يجب أن يتمّ باللغة الوطنية، فقد كان اهتمامي بالترجمة كبير... وانقضّ على عملية التعريب هذه زملاء باسم التناسق في لغة التدريس، خوفا على المستقبل، مستقبلهم هم. وتوقف التدريس باللغة الوطنية بعد ثلاث سنوات... وغادرت الجامعة والتدريس بصفة رسمية، وتفرّغت لاكتب وأسهم في الدفاع عما كنت ولا زلت أؤمن به وساهمت في كتابة مراجع دولية لعلّ أهمّها يتمثل في المعجم الطبي الموحّد الذي تصدره منظمة الصحة العالمية. وقد يبدو الامر غريبا أن نتفرّغ للانتاج والكتابة والابداع حين إقلاعنا عن كرسيّ في الجامعة. ولكنّها كانت الحقيقة بعينها. بالنسبة إليّ على الاقل. وحين قرأت ترجمة كتاب ثمين جدا لابن سينا من لدن زميلنا آدم فتحي أيقنت كذلك أن أمري لم يكن استثناء. فأنا لم أقرأ أجمل من تلك الترجمة. ولا تعلمت عن ابن سينا في غير هذا المرجع بالقدر الذي تعلمته فيها. ونحن في سنة الترجمة لا بدّ من إبداء بعض الحقائق حتى يذوب جدار الجليد الذي يفصلنا عن الاوهام والطموحات التي لا تجدي لانّها في غير متناولنا. والوهم الكبير أننا نتصوّر أنّ المترجم المبدع يمكن أن نكوّنه هكذا بعد مدّه بدروس في الترجمة. والطموح الذي لا يجدي هو أن نحاول التخطيط لدفع الدماغ البشري ليتحوّل إلى الكتابة بمجرّد أن نلبس طالبا حلّة في نهاية دراسته. لا يمكن أن نزرع الابداع. فالابداع لا يزرع. هو هكذا بمثل ما نسميه الغرام أو الصدفة أو الفطرة أو الموهبة، والتي هي هبة من الاقدار. وأعود للترجمات والتراجم والاسئلة التي كان من الضروري طرحها ولعلمي أنّها لم تطرح في هذه السنة. والاهداف التي لم تطرح ولعلّها الاهمّ في مثل هذه المناسبات الاستثنائية حيث المجموعة الوطنية تلتهم كلّ خبر حول موضوع الترجمة في هذه السنة. الاهداف يا سيّدي الفاضل هي الاساس. وحول هذه الاهداف كان ولا بدّ من طرح سؤال يتيم مهمّ جدا: أيّة ترجمة نريد؟ هل نترجم الكتب الادبية أم الدينية أم العلمية؟ وإذا أجبنا كلّها فهل لنا ما يكفينا من المال والبشر لذلك؟ هل نحن في حاجة للعلم مثلا فنترجم ما أنتجه العلم حديثا ونواكب العلم يوما بيوم ونلحق بركب الحضارة لانّ الحضارة يقودها اليوم قطار العلم وقوده اقتصاد واندماج في العولمة. ولانّ اليوم يومنا بحاجة للعلوم أكثر من أيّ وقت مضى وأكثر من أية مادة أخرى فلعلي أسأل بعد أن سمعت زميلنا يرفع من شأن العلوم هذه فيضع لها عشر ما رصده للمواد الاخرى والاختصاصات الاخرى. هكذا. العُشُر. هذه العلوم التي تدخل فيها المواد الطبية والصحية والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك وباقي العلوم الصحيحة الاخرى. بيت على عشر. واحد من عشر. ثم إنني لم أسمع البتةّ عمن أبدع من التونسيين في ترجمة العلوم بالقدر الذي أبدع به .... أنا لا يمكنني أن أسكت عن أمر مثل هذا. سنة 1987 شرعت في المعجم الطبي الموحّد مع منظمة الصحة العالمية. وفي تلك السنة لم أعلم أنني شرعت في عمل ترجمي واسع وثمين جدا لم يتمّ بعد ونحن في السنة الثامنة بعد الالفين. لان المعجم هذا يصدر باللغات الثلاث: العربية والفرنسية التي كنت مسؤولا عنها والانقليزية. مائة وخمسون ألف مصطلح. أعيد مائة وخمسون ألف مصطلح. لو أخرجناه كتابا مطبوعا لصدر في حجم لسان العرب لابن منظور. أكثر من خمسة آلاف صفحة للثلث الاول منه. ومنه انطلقت في ترجمة مراجع علمية أخرى... خمسة وخمسين كتابا... وهي أمور ذكرت في أكثر من صحيفة ولا أريد العودة إليها... اللهم أبقني في ضيق مكنتي. أعود إذا لقضايانا الجوهرية. الادب يترجمه الجامعي ويترجمه غير الجامعي مع الخيانة المسموح بها. والعلوم الانسانية يمكن كذلك أن نلامسها من جهات عديدة. ويمكن لغير الجامعي أن يبدع فيها بمثل الجامعي. كما يمكنه أن يتجاوزه ويتقن ترجمته إتقانا يلذّ لنا أن نراه ونقرأه ونعيد القراءة كما هو الشأن بالنسبة إليّ حين أقرأ ترجمة فريدة لادم فتحي نفسه، ذاك الذي ذكرته في بداية المقال هذا وهو يبدع في ترجمته لابن سينا...عبر اصفهان. قلت إن الترجمة العلمية قد تكون ما قصدته المجموعة الوطنية حين اعلانها عن سنة الترجمة. لان البلاد العربية بصفة عامة وتونس في الصدارة بحاجة للمصطلح العلمي والاجتماعات حول المصطلح العلمي الموحّد وبحاجة لترجمة كلّ ما يصدر وبحاجة للتعرّف على السر الدفين الذي به شعوب أخرى على الكرة الارضية تتقدّم وتبدع وتبيعنا سلعها... طائراتها ودباباتها وثلاجاتها. يا سيدي، حين أقرأ عن وريد ينبض والكتابة للراحل محمد العروسي المطوي في حليمة، معناه أن كبير كتابنا لم يكن، رحمه الله، يعلم أن الوريد لا ينبض. ثم إننا لا نعرف بلغتنا العربية تلك القطع التي نطلب إصلاحها حين تتعطّب راحلتنا أكانت سيارة أو حتى مجرّد دراجة. نحن نجهل تسمية مركبات ثلاجتنا. ودباباتنا. وتلفازنا. والحاكوم الذي ينقلنا من قناة لاخرى. ونجهل تماما محتويات حاسوبنا. ونجهل ونجهل. ولن يكون لنا نصيب في العولمة إذا ما استمر الامر على حاله من انعدام كلي لمصطلحاتنا البسيطة في كلّ ما يحيط بنا. المريض يدخل عيادة طبيب ما وهو معقّد يحاول النطق باللغة الاجنبية حتى يفهم الطبيب ما هو منه يشكو. ببساطة المتألّم ينطق بأشياء تكاد تكون غريبة والحال أن العرب أبدعوا في الطب، وإن غفلنا عن أمر مثل هذا فلنسأل كتب الرازي وابن سينا وابن الجزار والزهراوي وغيرهم كثير.. ببساطة يدفع الطبيب منا عقدة في المريض حين كلّ منهما يخاطب الاخر بلغتين لا تلتقيان. فالمتوازيان لا يلتقيان. بل لعلّهما في تلك اللحظة يجدان نفسيهما في حاجة ملحة لترجمان. فهلا كان من الضروري أن تحدث لجنة كاملة من بين اللجان العشر للطب والعلوم الصحية؟ لحاجة جميع الناس للطب كان من الضروري والرأي لي، أن تحدث لجنة بكاملها للترجمة الطبية وللتونسيين قول وفعل في هذا الميدان وقد أظهروا براعة وإمكانيات كان بالامكان الاستفادة منها في هذا السنة للترجمة. الرياضيات، رحماك أيها الراحل عنا... لو كان بإمكانك أن تفيق سيدي صاحب الشيء لطالبت بلجنة كاملة لترجمة الرياضيات. لان الرياضيات يا سيدي أساس العلوم الصحيحة وركيزتها. ولان الشيء متاع لنا. ولان الشيء بضاعتنا، كان بالامكان ربط ذاك الماضي التليد المجيد بحاضر لتونس نريده مشرقا وبسرعة البرق يا سيدي. أراك تتململ في قبرك غير راض عما يجري اليوم في عالم الترجمة. فقد أولوك جزءا يسيرا من ورقات علمية تبعا للجنة من اللجان العشر. أو لعلي لم أفهم. لعلي لم أفهم ما ذكر الخميس الماضي في الدقائق الاخيرة من برنامج دام ساعتين أشرف عليه صديقنا آدم فتحي في الاذاعة الثقافية. لم أفهم الرد عن سؤال طرح في الدقائق الاخيرة عن هذه اللجان. أو قل أنني فهمت من الرد أن العلوم كل العلوم الصحيحة سوف يحتفى بها في العُشُر(لا في العشْر) من اللجان... أرجو أن أكون لم أفهم. ثم مهما كان من أمر ما سمعت أو لم أسمع، فإن لتونس أن تفخر بمجموعة نيّرة من المترجمين المبدعين وأولاك الذين يملكون مشاريع على مستوى العالم العربي بأكمله يصولون ويجولون لحاجة الاخر إليهم ولحاجة الترجمة إليهم، ولحاجة اتحاد المترجمين العرب إليهم، ولانّ خبرتهم في الترجمة وليس التراجم لا يمكن أن يستغنى عنها. فعملهم رافد من روافد الترجمة في العالم العربي. بل والعالمي. وتنقّلهم من عاصمة عربية لاخرى، ومن مدينة النور لمدينة ليس بها الكثير من النور، لا يمكن أن يكون أمرا عابرا هدفه سياحة واستجمام... حتى وإن لم يطلب إليهم الاشراف على إحدى اللجان الوطنية للترجمة. حتى وإن لم يطلب منا بعد، ونحن لا زلنا في الثلاثية الاولى من سنة الترجمة، بالمساهمة في احد هذه الاجتماعات للجان الترجمة. سيدي الفاضل الاخت روضة، إن الجودة شأن من شؤوننا. وهو قضية من قضايانا. في كلّ ميدان. في الجامعة وفي الدرس بالابتدائي وفي صنع الحليب وفي عملنا كأطباء ومهندسين... وفي اللجان. كل اللجان. والاستاذ المجيد لعمله يعرف نفسه. وغير الجامعي كذلك. وتفتّح الجامعة على المحيط أمر لا يقلّ أهمية. فالقلعة التي تسمى جامعة لا يمكن أن تحاصر إلاّ نفسها لو بنت أسوارا وقلاعا تحميها. اليوم جامعات العالم ومؤسسات التعليم بصفة عامة تأخذ من بين المبدعين أفضلهم. حتى وإن كانوا من خارج الجامعة. والمبدعون في حقل ما وفي التراجم بخاصة، ليسوا بالضرورة من ساكني القلعة المحصنة التي تسمى الجامعة.