بقلم: سامي البرقاوي انتهى صاحب المقال في الجزء الاول عند شرح كيف ان عديد الصحابة والأيمة كانوا يعارضون مبدأ الوقف عارضا الاختلاف بين وجهتي نظر كل من الإمام الشافعي وشريح القاضي وفي الجزء الثاني يقول: «واضح أن الاختلاف هنا بين شريح والشافعي هو في فهم آيات القرآن، إذ يعتبر شريح أن الآية "مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" (المائدة : 103) تعني أن الله حرم الحبس عموما وفي بعض أنواعه المذكورة حرمان النساء دون الذكور، وأنزل آيات الإرث في سورة النساء فجعل نصيبا لهن بعد أن كنّ يحرمن منه في الجاهلية. وهذا أيضا حسب القرطبي في تفسيره موقف أبو حنيفة إذ يقول:" تعلق أبو حنيفة رضي الله عنه في منعه الأحباس وردّه الأوقاف، بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعله من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها، وقاس على البحيرة والسائبة ... ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال : هذه تكون حبسا، لا يجتنى ثمرها، ولا تزرع أرضها، ولا ينتفع منها بنفع، لجازأن يشبّه هذا بالبحيرة والسائبة". واحتج أبو حنيفة أيضا بما رواه "ابن لهيعة عن أخيه عيسى عن عكرمة عن ابن عباس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعدما أنزلت سورة "النساء" وأنزل الله فيها الفرائض : ينهى عن الحبس". ويورد مثله عن علقمة بن قيس (عالم الكوفة وفقيهها وهو من المخضرمين وتلميذ ابن مسعود، وحدث عن عمر وعثمان وعلي وسليمان وأبي الدرداء وخالد بن الوليد وحذيفة وخباب وعائشة وسعد وعمار وأبي مسعود البدري وأبي موسى ومعقل بن سنان وسلمة بن يزيد الجعفي وشريح بن أرطاة وقيس بن مروان وطائفة سواهم) وعن جابربن زيد (وهو من تلامذة ابن عباس ومن أكبرالمحدثين ومفسّري القرآن). معارضة خرق أحكام الميراث وهناك فريق آخر من الفقهاء، وإن وافقوا على مبدإ الوقف، إلا أنهم أكدوا على وجوب احترام أحكام الفرائض فيما يخص طريقة قسمة المنفعة بين الذكور والإناث من الأولاد، وأشهرهم مالك بن أنس. تقول المدونة في كتاب الحبس عن " أبي بكر بن حزم (وكان قاضي المدينة في عهد عمر بن عبد العزيز) إن عمر بن عبد العزيز كتب له أن يفحص له عن الصدقات وكيف كانت أول ما كانت ( قال ) فكتبت إليه أذكر له صدقة عبد الله بن زيد وأبي طلحة وأبي الدحداحة؛ وكتبت إليه أذكر له أن عمرة بنة عبد الرحمن ذكرت لي عن عائشة أنها كانت إذا ذكرت صدقات الناس اليوم وإخراج الرجال بناتهم منها تقول ... والله إنه ليتصدق الرجل بالصدقة العظيمة على بنته فترى غضارة صدقته عليها وترى بنته الأخرى وأنه لتعرف عليها الخصاصة لما حرمها من صدقته وإن عمر بن عبد العزيز مات حين مات وأنه ليريد أن يرد صدقات الناس التي أخرجوا منها النساء؛ وأن مالكا ذكر لي أن عبد الله بن عمرو وزيد بن ثابت حبسا على أولادهما دورهما وأنهما سكنا في بعضها؛ فهذا يدل على قول عائشة إن الصدقات فيما مضى إنما كانت على البنين والبنات حتى أحدث الناس إخراج البنات وما كان من عزم عمر بن عبد العزيز على أن يردّ ما أخرجوا منه البنات يدل على أن عمر ثبت عنده أن الصدقات كانت على البنين والبنات".. أما الروايات عن عائشة وعمر بن عبد العزيز فهي تشير إلى أن حرمان البنات في الوقف أمرجديد نسبيا، ولقي تحفظات قوية وأحيانا معارضة واضحة من طرف العديد من فقهاء الرعيل الاول، مثل ابن مسعود وعلقمة وابن زيد وشريح ومالك وأبو حنيفة. تبرير مخالفة صريح الآية هذا يعني إذن أن جزءا على الأقل من الفقهاء الأوائل من الصّحابة والتابعين كانوا يعتبرون الوقف مخالفا لصريح القرآن.. ويظهربالمقابل أن آيات الإرث لقيت معارضة واسعة من طرف جزء كبيرمن مسلمي القرن الأول وكان بينهم صحابة وتابعون، ففرضوا العمل بالوقف، رغم معارضة جزء لا بأس به من الفقهاء المتعللين بأحكام الفرائض. وعمد أنصارالوقف إلى تبريره بأشكال عدة. فالشافعي اعتبرأن آية تحريم الوقف خاصة بممارسات وقفية جاهلية ولا تعني تحريم الوقف إطلاقا. وفي حجّة فقهية أخرى استند الشافعي على تشبيه الفقه بالهبة والصدقة معتبرا أن الوقف ليس كالميراث لأنه صدقة في حياة المحبس لا بعد مماته، فملكيته خرجت من ملك المحبس ولا يمكن أن تورث. ولا يخفى أن هذا التبرير الضعيف لا يعدو أن يكون فعلا تبريريا بعديّا، مثل أغلب أحكام الفقه (والقوانين اليوم في أغلبها كذلك). واستند الشافعي أيضا، وغيره من أنصارالوقف، على سنّة الرسول والصحابة، ولا ننسى أنه من أوائل المؤسّسين لمبدإ أن السنة تفسّر القرآن، حتى وإن خالفته. ورغم ذلك، فالرسول، إن صحّ أنه حثّ على الوقف على طرق البرّ، فهو لم يذكر عنه حديث أنه أجاز الوقف الذي يخالف الفرائض. يتسم إذا موقف الفقهاء في القرن الثاني والثالث ببراغماتية كبيرة. فعوض التشبث بمعارضة الوقف على أساس معارضته للقرآن، كما فعل جزء واسع من فقهاء القرن الاول، وثبت أنه موقف غير فاعل بالمرة، عمدوا إلى إدماج الوقف في الفقه شيئا فشيئا. وهو ما يبين بوضوح أن ما يسمى بأحكام القرآن خاضعة في المقام الاول للقراءات المختلفة للبشر، وهم الذين يقرّرون ما هو حكم قرآني وما هو غير ذلك، وما يمكن تجاوزه بحيلة مثل حيلة الوقف وما لا يمكن، ولا يكون التقيد بالنص إلا بقدر ما كان ذلك متماشيا مع عقلية العصر وحاجيات المجتمع وتطوره. هذه البراغماتية هي بالضبط ما يفتقده "فقهاء" اليوم، إذ هم ليسوا فقهاء بقدر ما هم دعاة سياسيون. وسيكون حقا من الكارثي أن يشرع قانون الوقف المنتظر لعودة حرمان الإناث من الإرث تماما، متأخرا عن آراء ابن مسعود، وعلقمة وشريح ومالك وابو حنيفة أوعمر بن عبد العزيز، "خامس الخلفاء الراشدين". كما سنفوّت على أنفسنا فرصة تاريخية لتحقيق ما يطمح إليه أغلب شعبنا من المساواة في الحقوق بين أفراده، إذا ما نسينا أن الانسان هو الذي يشرع قوانينه في الماضي كما في الحاضر.