بقلم: رشيد خشانة (*) ليس سرا أن حركة "النهضة" استلهمت نموذجها المجتمعي من حركة "الإخوان المسلمين" في أعقاب عودة مؤسسها راشد الغنوشي من القاهرة في سبعينات القرن الماضي ، حيث كان يدرس في الجامعة المصرية، قبل انتقاله إلى دمشق وعودته النهائية إلى تونس. ومن الأحداث ذات الدلالة الكبيرة في مسار "حركة الاتجاه الاسلامي"، قبل تغيير اسمها إلى "النهضة"، المقال الذي نشره الغنوشي على صدر غلاف مجلة "المعرفة" الناطقة باسم الحركة، بعنوان "قادة الحركة الاسلامية" تحت صور كل من سيد قطب وآية الله الخميني وأبي الأعلى المودودي. ثلاثة رموز كانت مراجع الحركة التي نهل منها مؤسسوها، بما ضبط ملامحها الفكرية ونحت جسمها التنظيمي كان ذلك قبل نحو أربعين عاما. إلا أن النواة التاريخية ل"النهضة" ظلت متشبثة إلى اليوم بتلك المرجعية مع بعض التعديلات غير الجوهرية. وإذا كان افتتانها بالتجربة الإيرانية قد خبا لأسباب سياسية، فإن الارتباط بالتنظيم الدولي لحركة الإخوان المسلمين ما انفك يتعزز، خصوصا بعد اصطدام الحركة مع نظام بن علي في تسعينات القرن الماضي، وتشريد قياداتها في الخارج إلى جانب إدخال غالبية كوادرها إلى السجون. ووجدت الحركة في "التنظيم الدولي" أكبر سند شد أزرها خلال تلك الفترة العصيبة، وساهم في حل المشاكل الاجتماعية لكثير من أعضائها المشردين عبر العالم. وشكل السودان الذي وقع في قبضة "الإخوان" في أعقاب انقلاب 1989 الجدار الذي حمى ظهر "النهضة" واستضاف قيادييها وإطاراتها قبل حصولهم على حق اللجوء في بلدان غربية بين التونسة وتيار الأخونة المهم أن الاقتداء بمسار حركة الإخوان في مصر واتخاذها مرجعية فكرية أحدثا شرخا في رأس الحركة بين ما يمكن أن نُطلق عليه تيار التونسة، الذي كان يستمد مرجعيته أساسا من إرث علماء الزيتونة من جهة، وتيار الأخونة من جهة ثانية. وانتهى الصراع بين الجناحين إلى إزاحة الجناح الزيتوني الذي بات يُعرف بمجموعة "الاسلاميين التقدميين" وصولا إلى عزل مُنظره احميدة النيفر من رئاسة تحرير مجلة "المعرفة"، قبل أن يُصدر هذا التيار مجلة "15 / 21" في بواكير الثمانينات. والمُلاحظ أن الجزائر أبصرت صراعا مماثلا في تسعينات القرن الماضي بين تيار الجزأرة والتيار المتأخون، لكنه أخذ منحى دمويا بعد التصفية العنيفة لدعاة الجزأرة من هذه الزاوية يجوز فهم التشابه الكبير بين أداء حركة "النهضة" في تونس منذ أن تشكيلها حكومة "الترويكا" وتسلمها السلطة في 22 نوفمبر 2011، وأداء صنوها حزب "الحرية والعدالة" في مصر. ويمكن التقاط كثير من الملامح المشتركة التي طبعت أداء حكومة مرسي في مصر وحكومة "النهضة" في تونس، إذ لم تضع الحكومتان في سجليهما إنجازات تنموية أو سياسية أو اجتماعية يُمكن أن يُعتد بها. بل كان واضحا أن الفئات الواسعة من المجتمع التي كانت تنتظر تحسين أوضاعها المعيشية بعد تركيز سلطة منتخبة، ما لبثت أن أصيبت بخيبة أمل عميقة مازالت تتناقل وسائل الإعلام يوميا نماذج منها. كما اضطرب حبل الأمن في جميع الولايات على نحو لم يتعود عليه التونسيون، وانتشرت الاعتداءات المسلحة والاغتيالات، مما كشف عن عجز شامل في هذا المجال الحساس، إذ أن التونسي قد يقبل على مضض بالتفريط في الرفاه المادي، لكنه غير مستعد للتضحية بأمنه الشخصي وأمن أسرته أيا كان الظرف. ولم تُطمئن "النهضة" مخاوف النخب المعارضة لنهجها على اختلاف أطيافها، بل على العكس من ذلك أيقظت فيها حاسة الدفاع عن الذات، وعمقت هواجسها خصوصا بعد امتداح الغنوشي العلني والسري للجماعات السلفية. والنتيجة أن الاستقطاب تعمق بين فريقين من التونسيين بخلفياته الفكرية وامتداداته السياسية، حتى بات البلد مُهددا بالتقسيم إلى "فسطاطين" طبقا للرؤية الإخوانية وثقافتين وربما إلى... مجتمعين متناحرين. والملاحظ هنا أنه لو لم يستطع العقلاء تفادي الاحتكاك بين المعسكرين، لتطورت الأمور إلى مواجهة بين المشاركين في "اعتصام الرحيل" في ساحة باردو وأنصار "النهضة"، لولا اختلال الموازين لغير صالح مؤيدي الحكومة حتمية الفرز؟ هذا الفرز مطلوب بقوة في فكر "النهضويين" لأنهم تعاملوا مع انتخابات المجلس التأسيسي كما لو أنها صك على بياض بلا سقف زمني ولا خضوع لمساءلة أو محاسبة، غير مُدركين أنها تختلف جوهريا عن الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية (مثلما حصل في مصر)، باعتبارها لا تمنح آليا تفويضا للحكم. والفرز هذا متأصل أيضا في فكر "الإخوان" المستعدين للتضحية بنصف المجتمع من أجل "إصلاح" النصف الآخر. وإذا كان محمد مرسي قد عين خياطا من عُتاة السلفيين محافظا للأقصر، من بين الحزبيين الكثيرين الذين عينهم، فإن "النهضة" سمت أعضاء متواضعي الزاد التعليمي فضلا عن افتقادهم لأية خبرة إدارية، وُلاة ومعتمدين ومديرين عامين لشركات ومؤسسات عمومية. في الخلاصة يتسم المشهد التونسي اليوم باحتجاجات متواصلة ارتقت في العاصمة وبعض المدن إلى مستوى اعتصامات كثيفة العدد، وشلل لمؤسسات الدولة معطوف على انهيار اقتصادي واضطراب حبل الأمن، وهي مقومات أزمة شاملة لا تقتصر على الواجهة السياسية، وإنما طالت وتطال المجتمع بأسره يبقى سؤال كبير ومفصلي: ما موقف "النهضة" من دور الجيش في الأزمة الراهنة؟ من المعروف أن النهضويين لا يعارضون تسييس المؤسسة العسكرية، فهم اخترقوها وحاولوا استخدامها جسرا للاستيلاء على الحكم على الأقل مرتين: في 1987 قبل أن يسبقهم انقلاب بن علي، ثم في مطلع التسعينات عندما تم كشف جهازهم الخاص المؤلف من إطارات عسكرية وأمنية. من المجازفة الاستدلال هنا بالمثل الفرنسي القائل "ما من حادثين إلا ولهما ثالث"، لأن ذلك سيقودنا إلى التنجيم. لكن الاختراقات التي نسمع عنها بشكل متواتر تستدعي في الحد الأدنى اليقظة والمراقبة. ومما يُعزز تلك المخاوف العلاقة الحميمة والتاريخية بين "النهضة" والحكام العسكريين في السودان، الذين يُعتبر نظامهم قدوة فريدة بوصفه النظام الاسلامي الوحيد في العالم العربي على أن الجيش التونسي الذي تربى على الفصل بين الحقلين السياسي والعسكري والذي لم يفتح النار على المتظاهرين في "انتفاضة الخبز" سنة 1984 وأبى أن يُريق الدماء أثناء الثورة، ثم تعفف عن التقاط السلطة بعد فرار المخلوع، لا يمكن أن يقبل بتحويله إلى أداة في يد طرف سياسي، خصوصا إذا أريد استخدامه قبضة لضرب الشعب الضاجر من الحكومة. ومن الواضح أن القصور عن استخدام قوات الأمن أو الجيش لإجلاء المُعتصمين من ساحة باردو سيُعمق من عزلة حكومة "الترويكا" ويُفكك قاعدتها الاجتماعية، إلا من قلة المتحزبين المنتمين إلى "النهضة" و"المؤتمر". لا يُعزى هذا الإخفاق المُعلن إلى قلة الحيلة وإنما بالأخص إلى غياب الإبداع وضعف الخيال وتواضع الخبرة بالحكم وبالإدارة عموما. لا يوجد في الحكومة رجال دولة ولا سياسيون مُحنكون لأن المعيار الذي اعتُمد في تسمية أعضائها اقتصر على "النضالية"، أي درجة الولاء للحزب وعدد السنوات المُقضاة في السجن أو المنفى خيار ثالث وإزاء قرار المعارضة ضرب موعد لما أسمته "أسبوع الرحيل" في 24 أوت الجاري، من أجل إسقاط الحكومة وتأليف حكومة إنقاذ، مع ما سيُرافق ذلك من تصعيد مُتوقع للحراك السياسي والشعبي، سيجد الفريق الحاكم (المُهتز من الداخل أصلا بسبب تحفظات حزب "التكتل) نفسه مُترددا بين خيارين: فإما إعطاء الإذن بالتعامل الأمني العنيف مع المُعتصمين في باردووالولايات، والتمادي في صم الآذان عن المطالب الواقعية المتمثلة في وضع سقف للمرحلة الانتقالية وتسمية شخصية مستقلة على رأس حكومة وفاق... فنصل عندها إلى مرحلة التعفن الشامل للوضع الاقتصادي والاجتماعي. وإما المناورة بتقديم تنازلات جزئية لكسب الوقت والعمل على دق إسفين بين الخصوم من أجل تفكيك وحدتهم سيقودنا السيناريو الأول لا سمح الله إلى حالة مصرية تكون فيها الأدوار معكوسة، لكنها منزلق أكبر وأخطر بكثير من أحداث سليانة ومواجهات 9 أفريل 2012 في العاصمة. أما الثاني فمآله إلى مُضاعفة الأزمات الاجتماعية مع انحباس الاستثمار الداخلي والخارجي وانهيار قيمة الدينار والتهاب الأسعار وتفجر الحركة الاضرابية واستشراء الإرهاب في كامل البلاد، فضلا عن تعميق الاستقطاب والانقسام في صفوف الشعب، وهو الأخطر مع ذلك هناك خيار ثالث يتمثل في القراءة الرصينة للواقع واحتمالات المستقبل القريب والمتوسط، بما يُؤدي للإقرار بالإخفاق وانسحاب الأحزاب الحاكمة إلى الصف الخلفي في أفق الانتخابات المقبلة، وترك المجال لحكومة متوافق على أعضائها وخاصة على رئيسها. صحيح أن هذا الحل يبدو ذا كلفة سياسية عالية بالنسبة ل"النهضة" ومن والاها من المجموعات الصغيرة، لكن التوقيت في السياسة مهم جدا، وكل خطوة تأتي بعد الأوان تترتب عليها لا محالة ضريبة ترتفع قيمتها أو تخف بقدر حجم التأخير وتداعياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية على البلاد