تونس - الصباح الاسبوعي : يحتجون ..يرفضون..ينبهون إلى خطورة المسار الذي تنتهجه الحركة..يتذكرون مشروعهم القديم..عذابات السجون ورفاق الدرب الذين طحنتهم آلة القمع الوحشية للنظام .. يثورون على القرارات العشوائية والمتسرعة..ويدعون الاخوة الى أن يثوبوا لرشدهم ويحترموا نضالات أجيال فيهم من فقد حياته في سبيل أن تصل الحركة الاسلامية للحكم ..لكن مصير الثائرين عن نواميس الحركة وتعاليم راشد الغنوشي وزمرته من المقربين والموالين له ، يكون لفظهم كالنواة ..فيتألمون وينسحبون في صمت ،فبعد التضحيات الجسيمة يجنون ثمار الخيبة تلو الأخرى ولكن الغريب أن تصعيد المواقف ينتهي دائما بالانسحاب ولا يؤدي الى الانشقاق أو خوض مغامرة الحزب الجديد.. هؤلاء هم باختصار بعض القيادات التاريخية لحركة النهضة والذين من بينهم عبد الفتاح مورو أحد الرموز التاريخية للحركة الإسلامية في تونس، حماّدي الجبالي الأمين العام الحالي للحركة لكنه في الحقيقة يتقلّد أمانة صورية وغير مؤثرة في القرارات رغم الثقل الرمزي و التاريخي للرجل ،وأخرهم نجيب الغربي رئيس المكتب الإعلامي للحركة الذي استقال من منصبه ومن كل التكليفات التنفيذية بالحركة. المناضل ..«غريب » في بيت النهضة الحاكمة لعلّ الأستاذ عبد الفتاح مورو لم يكن ليدرك أن ذلك اللقاء المختصر والذي جمعه صدفة سنة 1969 في أحد المساجد بتونس العاصمة براشد الغنوشي ،سيكون اللقاء الذي سيتحكم في مسار حياته ويحدّد مصيره السياسي منذ أكثر من أربعين سنة، في ذلك اللقاء اتفق الشبان حينها على تأسيس الحركة الاسلامية في تونس أو الجماعة الاسلامية السرية والتي اتخذت من المساجد والجامعات معاقل لنشاطها المحظور بقرار سياسي لكن رغم السرية أصبحت حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة حاليا ) في سنة 1981معروفة جدا ودخلت في مواجهة مفتوحة ومباشرة مع النظام البورقيبي في أواخره ومع نظام بن علي في بداياته والذي تعرّض مورو على يده سنة 1992 على اثر خروجه من السجن بعد حادثة باب سويقة الى حملة تشويه شخصية ،القمع الشديد جعل من الاسلاميين شتات وتفرّقوا بين الدول و"اختفى" مورو في صحراء الركود السياسي..ليظهر من جديد بعد عقدين من الزمن وتحديدا يوم 30 جانفي 2011 معلنا أنه سيعود للنشاط السياسي من جديد.. لكن الشيخ صدم وكاد يفقد عقله عندما أقصي من الهيئة التأسيسية الجديدة لحركة النهضة ما بعد الثورة والتي أصبحت طموحاتها مشروعة في اقتناص لحظة الحكم.. عودة المناضل "الضّال" لم تكن بحجم ضجيج البدايات كانت عودة باهتة وغير فاعلة أو مؤثرة داخل الحركة ،لم يعد له ذلك الصوت الصادح الذي يؤخذ به وينفّذ بحذافيره ،لكن رغم ذلك كان للشيخ قدرة رهيبة على احتمال اللامبالاة من شخصيات لم تدرك المحنة وسنوات الجمر لكنها أدركت الحكم وملذاته ربما لأنه وكما قال عنه صديقه المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي في أحد مقالاته يفسّر فيها علاقة مورو بالنهضة والعاطفة الجياشة التي دفعته الى أن لا يقطع شعوريا مع الحركة " إنه عشق من نوع خاص يربط أحياناً بين رجل وامرأة، أو بين شخص وجماعة" ورغم تباعد المسافات بين حركة النهضة والشيخ عبد الفتاّح مورو الاّ أنه يصرّ على الاقتراب منها ولم ينس قط رفيق دربه راشد الغنوشي الذي التقاه منذ ما يناهز النصف قرن وهو يدافع عنه ببسالة ، ورغم كل الأذى المعنوي والنفسي الذي لحقه فان مورو في آخر تصريح له لم ينس تحذير الغنوشي من أنه سيضحى به من طرف قيادات الحركة كما فعلوا معه وسيقمعونه لأنه انفتح على العلمانيين مؤكّدا على أن حركة النهضة أصبحت رهينة شباب متطرف . رغم كل هذا المدّ والجزر بينه وبين حزبه الاّ أن مورو ينسحب في صمت لكنه لا يعلن انشقاقه صراحة.. حمادي الجبالي ..أمين عام صوري «يتحمل المجلس التأسيسي بكل نوابه وأحزابه المسؤولية الأولى والشعب يشهد على ذلك. وقلت لهم عندما كنت رئيسا للحكومة أرجوكم أن تحترموا الشعب، وقوموا بالانتخابات في صيف 2013، فكان ردهم بما فيهم نواب حزبي أن المجلس مؤسسة سيادية لا يتدخل فيه أحد"..لعل هذه الجمل القصيرة والتي كان أدلى بها حمادي الجبالي الأمين العام الحالي لحركة النهضة ورئيس الحكومة تلخّص بصفة جلية الفتور الذي يشوب علاقته بالأحزاب الحاكمة والمهيمنة على المجلس التأسيسي و منهم حركته.. حمادي الجبالي الذي دخل في مواجهة مباشرة مع النهضة بعيد اغتيال شكري بلعيد عندما لوّح باستقالته مقترحا حكومة كفاءات وطنية لانقاذ البلاد من حمام دم ومن وضع أصبح لايحتمل وعندما رفضت الحركة مقترحه لتشكيل حكومات كفاءات خيّر الاستقالة من منصبه كرئيس حكومة في خضّم جدل محتدم حول طلاق بالثلاثة بينه وبين الحركة التي ناضل فيها منذ الثمانينات ودفع ثمنا باهضا لذلك عندما اعتقل سنة 1990 وحكم عليه بالسجن ستة عشر عاما نافذة قضى منها عشر سنوات في السجن الانفرادي قبل أن يضرب عن الطعام سنة 2002 ثم أفرج عنه في 2006 .. ومنذ ذلك التاريخ والرأي العام في تونس يشعر وكأن حمادي الجبالي ليس أمينا عاما للحركة ،فقد غابت مواقفه في كل القرارات المصيرية التي اتخذتها الحركة كما أن معركة الحركة التي خاضتها بعد اغتيال البراهمي كان حمادي الجبالي بعيدا عنها ،مصادر من داخل الحركة تتحدّث عن منصب صوري يضطلع به الجبالي الذي بات يبحث عن وجهة سياسية جديدة يتكتّم عليها بشدة ودون مجازفة بالإفصاح عنها.. منذ أيام فاجأ رئيس المكتب الإعلامي الرأي العام بدوره بالإعلان عن استقالته في نصّ مقتضب ومصادر من داخل الحركة تتحدّث عن أسباب موضوعية للاستقالة قيل أنها تتلخّص في رغبته التفرّغ للبحث الأكاديمي وكذلك أسباب ذاتية أهمها عدم موافقته على الكثير من القرارات داخل الحركة.. كل هؤلاء المنسحبون أثاروا ضجة لأنهم معروفون لكن مصادر من الداخل تتحدّث على عشرات الانسحابات، ولكنه كالعادة انسحاب صامت لم يرتق الى درجة الانشقاق والعمل السياسي بعيدا عن النهضة لأن النهضة تستمّد شعبيتها من زخم نضالي كوّنته كمجموعة ولن يحافظ عليه الأفراد مهما كان ثقلهم التاريخي والنضالي فرادى.