قال الخبير الدستوري والمحلل السياسي جوهر بن مبارك إن تونس ستشهد مع بداية العام المقبل تغيرا جذريا في المشهد السياسي يتمثل باستبدال رئيس الحكومة الحالي بأحد وجوه نداء تونس وحصر الائتلاف الحاكم بحزبي "النداء" و"النهضة"، وأشار إلى أن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية يمهد لعودة رموز نظام بن علي إلى السلطة من الباب العريض، مطالبا بعرض هذا المشروع "غير الدستوري" على الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، وكذلك عرضه على الاستفتاء الشعبي لأنه يثير الانقسام داخل المجتمع التونسي. وأضاف في حوار خاص مع "القدس العربي": "أعتقد أن حكومة الحبيب الصيد وُضعت بأجل مسمى وكان عمرها الافتراضي لا يتجاوز السنة وكل المتتبعين بشكل دقيق للمشهد السياسي يدركون ذلك". وأكد بن مبارك (رئيس شبكة دستورنا) أنه بنى تصوره الحالي بناء على "معطيات واقعية وثابتة، من بينها وجود أزمات داخلية كبرى داخل الحزبين الحاكمين". وأضاف "حركة النهضة فيها صراع داخلي كبير، وبدأت الآن بعض المطالبات بأن تكون تمثيليتها الحكومية تتناسب بالحد الأدنى مع تمثيليتها البرلمانية (وزير و3 كتاب دولة مقابل 69 مقعدا برلمانيا)، وثمة أصوات كثيرة داخل الحركة تقول إننا نتحمل مسؤولية سياسية في نجاح أو فشل هذه الحكومة من دون أن تكون لدينا القدرة الحقيقية على التأثير في قراراتها، يعني نتشارك في تحمل المسؤولية ولا نتشارك مع النداء في اتخاذ القرار". وأكد بن مبارك بالمقابل أن نداء تونس يعاني هو الآخر من أزمة داخلية "تتعلق بالتوازن الداخلي المُختل للحزب، فنحن نعرف أن الحزب يتضمن وجوها تجمعية ودستورية كبيرة، وهي ترى أنها تحملت العبء الأكبر في الانتخابات وساهمت بالقدر الأكبر في الحزب عن طريقة تعبئة الماكينة الانتخابية والتعبئة المالية، ولكنها تجد نفسها اليوم مُقصاة من المشهد الحكومي والسياسي بشكل عام". وأضاف "أعتقد أن هناك توجها اليوم نحو تغيير الصيغة الحكومية من أجل استيعاب هاتين الأزمتين، أولا بتغيير رئيس الحكومة واستبداله بأحد وجوه نداء تونس، وثانيا بتوسيع مشاركة حركة النهضة في الحكومة عبر التضييق في الائتلاف الحاكم وحصره بين نداء تونس والنهضة من دون الحاجة إلى الحزبين الصغيرين المرافقين لهذا الائتلاف، وثالثا بتوسيع مشاركة القوى الدستورية والتجمعية داخل النداء على حساب ما يسمى بالقوى اليسارية" ويرى بن مبارك أن الصيغة الحكومية المفترضة تتطلب حوالي ثمانية أشهر كي تنضج، يتخللها بعض الترتيبات "من بينها قانون المصالحة الوطنية (الاقتصادية) وهو يأتي كأحد الترتيبات الأساسية باعتباره القانون الذي سيطبّع الوضعية السياسية والاقتصادية والمالية للتجمعيين ورجال المنظومة السابقة بالقانون وبمقتضى التشريع، وهذا يمهد لعودتهم إلى المشهد الحكومي من الباب العريض". ويتوقع أن يتم الحديث عن تغير جذري على الصعيد الحكومي والسياسي في نهاية الثلث الأول من العام المقبل، مشيرا إلى أن مشاركة حزبي "آفاق تونس" و"الاتحاد الوطني الحر" في الحكومة "كانت ضرورية في المرحلة الأولى، باعتبار ما جرى في الحملة الانتخابية، إذ لا يمكن للجمهور الذي صوت للنداء أو النهضة أن يتقبل بسهولة مسألة التحالف الثنائي المباشر والمنفرد، فأراد هذان الحزبان تقديم صيغة أولى تكون في شكل حكومة وحدة وطنية ولا تظهر في الصورة تحالفات مباشرة وثنائية بين الحزبين، لأنهما قاما بحملة انتخابية على أساس شتم الآخر وشيطنته، الآن الظروف بدأت تجهز لتهيئة أنصار الحزبين لتقبل هذا الأمر". وفيما يتعلق بمشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذي اقترحه الرئيس الباجي قائد السبسي، يؤكد بن مبارك أنه يتعارض مع بنود كثيرة في الدستور "على رأسها الفصل 148 المتعلق بمسار العدالة الانتقالية، فضلا عن عدم احترام المشروع لمبدأ المساواة بين المواطنين، وهو مبدأ دستوري كذلك، وأيضا عدم احترامه لمبدأ دستوري آخر يتعلق بالحوكمة الرشيدة وحسن التصرف بالمال العام، وكذلك تضاربه مع الفصل العاشر من الدستور المتعلق بمبدأ العدالة الجبائية والمساواة في تحمل الأعباء العمومية". ويرى أن لجوء ثلاثين نائبا إلى الطعن بهذا المشروع سيؤدي إلى الغائه أو رفضه على الأقل من قبل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، لكنه يؤكد أن هذه الخطوة غير كافية "على اعتبار أن هذا المشروع سيحدث منعرجا في خيارات توافقية ميّزت المرحلة الأولى من الانتقال الديمقراطي وتتعلق بمسار العدالة الانتقالية. لذلك نظرا لأهميته، اقترح أن يتم عرضه على الاستفتاء الشعبي وفقا للدستور، باعتبار أن الدستور يسمح لرئيس الجمهورية بعرض مثل هذه القوانين الهامة على الاستفتاء الشعبي". ويضيف "هذا الاستفتاء هو الخطوة الوحيدة الكفيلة بإغلاق هذا الملف وليس تأجيله، لأن قانون المصالحة الوطنية الآن هو مجرد تأجيل ولا يخدم مصلحة الشعب التونسي أو الدولة أوحتى المستفيدون منه، باعتبار أن هؤلاء الأشخاص المطلوبين للعدالة الآن، مصلحتهم الأساسية تكمن في غلق هذا الملف وليس تأجيله إلى أغلبية أو انتخابات مقبلة أو تغير موازين القوى السياسية في البلاد، بمعنى أني أقترح عرضه على الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، وكذلك عرضه على الاستفتاء الشعبي لأنه محل خلاف وانقسام داخل المجتمع التونسي ولا يمكن حسمه فقط عن طريق الأغلبية البرلمانية". وكانت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين اعتبرت أن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية "جريمة في حق الشعب التونسي"، مؤكدة أنه سيعيد انتاج منظومة الفساد السابقة ويمنحها فرصة لمواصلة عملها، فيما حذر رئيس لجنة التحكيم والمصالحة في الهيئة خالد الكريشي من أن تمريره سيؤدي إلى "ثورة شعبية ثانية أكثر دموية وعنفا". ويعلّق بن مبارك على ذلك بقوله "ربما يكون في هذه التصريحات نوع من المبالغة، ولكن الأكيد أن هذا المشروع سيزيد من احتقان الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية نظرا لتسلسل الإجراءات التي أخذتها هذه الحكومة منذ أن تولت الحكم لصالح طبقة الاثرياء من دون الأخذ بالاعتبار مصالح الطبقة الوسطى والطبقات الضعيفة، أي أن الحكومة تخدم الآن مصلحة فئة على حساب أخرى، والمشروع المذكور قد يفاقم التعقيدات والاحتقان الاجتماعي وأعتقد أن على السلطة الحاكمة أن تكون أكثر مسؤولية في الأخذ بعين الاعتبار كل هذه الأمور". وفيما يتعلق بدعوة المعارضة إلى التظاهر لإسقاط المشروع، يقول بن مبارك "«التظاهر خيار مفتوح وحق مكفول، ولكن قدرة المعارضة والمجتمع المدني على التعبئة الجماهيرية الآن باتت محدودة، قد تخرج مظاهرات هنا وهناك ولكنها لن تحول دون تمرير هذا القانون ودخوله حيز التنفيذ. أعتقد أن التركيز على المسارات القانونية والدستورية، كالطعن والاستفتاء، هو الطرق الأفضل والأكثر نجاعة للتصدي لهذا المشروع." (القدس العربي)