تحتفل تونس اليوم 15 أكتوبر بالذكرى 53 لعيد الجلاء وهي المناسبة التي كان التونسيون يحتفلون بها أيام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة كعيد وطني وبعد استيلاء زين العابدين بن على السلطة يوم 7 نوفمبر عام 1987 همش هذه المناسبة وأعادت الثورة الاعتبار لهذه المناسبة(كان ذلك دون مراجعة دقيقة لأسباب إقرار المناسبة أو إلغاء الاحتفال بها).. و لا شك أن سلوك كلا الطرفين يمثل موقفا من الحدث وطبيعته وخلفياته ونتائجه وتداعياته وهو أمر شغل أيضا قطاعا هاما من النخب التونسية لفترة طويلة ومنهم الباحثين في تاريخ تونس المعاصر والراهن كل من زاوية نظره الخاصة.. والواقع أن معركة بنزرت كأغلب الأحداث الهامة التي عرفتها البلاد التونسية في مراحل مختلفة(من ذلك مثلا أسباب انشقاق الحزب الحر الدستوري التونسي وتوقيته،أحداث 9 افريل 1938، مضمون وثيقة الاستقلال وطبيعة وأسباب الخلاف بين الزعيمين صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة....) قد أثارت ولا زالت تثير الكثير من الأسئلة وتدفع بعض المؤرخين لمزيد التمحيص والمراجعة رغبة في بلورة رؤية جديدة لتاريخ تونس المعاصر تستند لرواية امتن واقرب للحقيقة. ومن أهم الإشكاليات التي تتردّد حول هذه الحرب(معركة) هل كان خيار المواجهة الحربية بين فرنساوتونس حتميا؟ ألم يكن بالإمكان اعتماد خيارات أخرى سياسية ودبلوماسية غير المواجهة الحربية وتفادي الخسائر البشرية وتحطيم البنية الأساسية للمدينة خاصة وان بورقيبة قد اعتمد في نضاله الخيار السياسي السلمي(خذ وطالب) وفي استثناءات قليلة العنف الجزئي(أحداث افريل ومواجهات 1952-1954 العنيفة).. ولماذا اختار بورقيبة خوض هذه المواجهة العنيفة؟ وهل حققت تلك المواجهة النتائج المرجوّة منها؟ كانت الفترة الممتدة بين 1956 و1961 من تاريخ تونس فترة دقيقة وحرجة جدا في تاريخ البلاد، داخليا وإقليميا وحتى دوليا: فعلى المستوى الداخلي: لم تستكمل الدولة الوطنية الفتية سيادتها على كامل التراب التونسي حسب بروتوكول الاستقلال (التعهد بالمحافظة على المصالح الفرنسية بالبلاد التونسية، وأهم تلك المصالح كانت العسكرية والعقارية، في مقابل مساعدة الدولة الفرنسية المالية والتقنية والاقتصادية)، في موازاة ذلك عدم إيفاء فرنسا بالتزاماتها وإصرارها على إبقاء جيشها بعدة مناطق من البلاد التونسية في الجنوب(رمادة خاصة) وفي الشمال( القاعدة العسكرية ببنزرت التي كانت تضم أكبر قاعدة عسكرية فرنسية وما تمثله مدينة بنزرت في حد ذاتها من موقع استراتيجي هام) برغم المساندة الأمريكية والبريطانية للحكومة التونسية وتبادل الرسائل بين الحكومتين الفرنسية والتونسية (17 جوان 1958) التزمت بمقتضاه فرنسا بالانسحاب من كامل أنحاء البلاد خلال أربعة أشهر باستثناء قاعدة بنزرت التي سيتم إعداد اتفاق مؤقت في شأنها إلى حين تحديد وضعها النهائي.وهو ما شكّل لقيادة الدولة برئاسة الزعيم الحبيب بورقيبة حرجا كبيرا أمام التشكيك في منهجية بورقيبة(خذ وطالب) وتواصل المواجهات في عدة مناطق في أقصى الجنوب خاصة من ذلك اندلاع مواجهات مسلحة ليلة 24 25 ماي 1958 في رمادة بالتوازي مع ارتفاع منسوب شعبية المرحوم صالح بن يوسف في الداخل والخارج على خلفية رؤيته لطبيعة الصراع في تونس والوسائل المعتمد ارتباطا بحركة التحرر الوطني في الجزائر...بالإضافة إلى حدّة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. إقليميا: تواصل وتصاعد الثورة الجزائرية وتمددها جغرافيا وتزايد شعبيتها في الداخل وفي الخارج وتزايد انتصاراتها ومثلت تونس(كما المغرب)قاعدة خلفية آمنة على المستوى السياسي(الحكومة المؤقتة) واللّوجستي (الحدود الغربية في الشمال الغربي والجنوب الغربي) وهو أمر يتناقض مع وجود القواعد العسكرية الفرنسية على التراب التونسي والقيام بعمليات حربية ضد الثورة الجزائرية بل وصل الأمر إلى الاعتداء حتى على السكان التونسيين (الغارة الجوية على ساقية سيدي يوسف08-02-1958) والجزائريين المقيمين بالأراضي التونسية.. دوليا: تزايد حدة الحرب الباردة واتساع الفجوة بين الخصوم "الأيديولوجيين" وفتورا متفاوتا حتى بين كتلة المعسكر الغربي وفرنسا(وهي جزء منه) حول مسالة تحرر المستعمرات لكن دون ان يمنع ذلك من مساندة الحلف لمحافظة فرنسا على قاعدتها العسكرية في بنزرت كما تواصلت نضالات وانتصارات حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا واتساع التضامن العالمي معها(باندوغ 1955( المعركة: دامت معركة الجلاء عن بنزرت أربعة أيام من 19 إلى 22 جويلية 1961. جددت الحكومة التونسية بداية من شهر جانفي 1960 المطالبة بالجلاء القوات الفرنسية عن بنزرت ووجهت مذكرة للحكومة الفرنسية في الغرض، كما حددت يوم 08 فيفري 1960 موعد إعلان معركة الجلاء في صورة رفض فرنسا الدخول في المفاوضات حول بنزرت وفي موازاة ذلك كثفت الحكومة الضغط العسكري والشعبي على الميدان في الوقت الذي انطلق الطرف الفرنسي يوم 30 جوان 1961 في إجراء أشغال توسعة للمطار العسكري بثكنة سيدي احمد ببنزرت ما يشير إلى خرق اتفاق 17 جوان 1958 القاضي بتأجيل النظر في مسالة بنزرت. فتصدت قوات الحرس الوطني التونسي فورا للعملية وأعادت الأسلاك الحديدية إلى مكانها الأصلي في حركة أغضبت الفرنسيين واستقبل القائم بالأعمال الفرنسي في غرة جويلية الباهي الأدغم الوزير الأول والصادق المقدم وزير الخارجية ليبلغهما انزعاج فرنسا الشديد من العملية. ومنذ منتصف جويلية 1961 تأزمت العلاقة بين تونسوفرنسا بسبب رفض الحكومة الفرنسية الدخول في مفاوضات حول الجلاء عن بنزرت وعن أقصى الجنوب، وهددت الحكومة التونسية يوم 17 جويلية بمحاصرة بنزرت بعد ذلك اجتمع الديوان السياسي للحزب الدستوري وأصدر بيانا يعلن فيه فشل المفاوضات حول جلاء قاعدة بنزرت من قبل الجيش الفرنسي داعيا إلى ضرورة خوض الحرب لاستعادة بنزرت وانطلقت عملية التعبئة الشعبية في كامل أنحاء الجمهورية وجرى إيفاد مئات المتطوعين من الشباب والكشافة والمقاومين إلى بنزرت لمؤازرة القوات المسلحة التونسية الفتية لمواجهة القوات الفرنسية المتمركزة بقاعدة بنزرت والمدججة بأحدث الأسلحة ووسائل التدمير القوية (طائرات، دبابات، مدفعية، بوارج حربية...)، تعززها وحدات المظليين القادمة من الجزائرالمحتلة. غير أن تباين موازين القوى لم يكن ليثني الشعب التونسي وحكومته وقواته المسلحة عن خوض هذه المعركة بصمود. الضحايا: برغم الفترة الوجيزة للمعركة فان الخسائر كانت كبيرة فالبعض يشير إلى سقوط 670 شهيدا و1511 جريحا في حين تفيد الجهات الرسمية إلى أن عدد الشهداء لم يتجاوز 639 شهيدا منهم 364 عسكريا و45 من الحرس الوطني و230 مدنيا وحوالي 1000 جريح ومن الجانب الفرنسي نحو 27 قتيلا في حين أكد ضابط من الحرس الوطني ساهم في المعركة أن عدد الضحايا قد بلغ نحو 7 آلاف.؟؟ ما يشير إلى اختلال موازين القوى بين الطرفين وعدم استعداد الحكومة التونسية لخوض هذه الحرب. كما لم تغادر فرنسابنزرت إلا بعد عامين ونصف على اندلاع الحرب(كان جلاء الجيش الفرنسي عن بنزرت في 15 أكتوبر 1963). فلماذا لم يستجب بورقيبة لدعوة الرئيس الفرنسي،عند اجتماعهما في18-02-1961 في مدينة رامبويي، بالتريّث لفترة زمنيّة وجيزة قناعة من فرنسا بان بقاءها في المستعمرات أصبح دون جدوى(حسب ما كتبه ديغول في "مذكّرات الأمل"الجزء الثالث)خاصة وان موجة الاستقلال بدأت بعد اقتناع الغرب بحق الشعوب في تقرير مصيرها. ومهما كان الأمر نجح بورقيبة في تحقيق عدة مكاسب منها: إجلاء الجيش الفرنسي عن بنزرت وعن التراب الوطني التونسي. إعادة رسم صورته كأحد زعماء حركات التحرر في العالم خاصة بعد حضور كل من رمزي التحرر الوطني العربي والعالمي جمال عبد الناصر واحمد بن بلّة احتفالات الجلاء في بنزرت. وفي موازاة ذلك: تمكن بورقيبة من التخلّص من ألدّ أعدائه بعد اغتيال الزعيم صالح بن يوسف في ميونيخ (12 أوت 1961) أي بعد أقل من شهر من معركة بنزرت. تدعيم حكمه الفردي: فبعد إجهاض الانقلاب العسكري الذي قامت به مجموعة من العسكريين والأمنيين(الحرس الوطني) وقدماء المقاومين(1962) ومحاكمتهم اتخذ مجموعة من الإجراءات التي ضيقت الحريات النسبية التي كانت سائدة في البلاد (تحجير نشاط الحزب الشيوعي، القضاء على الصحافة الحرة،اختراق النقابات ومنظمات المجتمع المدني...) ومهما كان الأمر لا تبدو،حسب رأينا مسالة جلاء القوات العسكرية عن البلاد التونسية بغريبة عن التفكير السياسي للرئيس السابق المرحوم الحبيب بورقيبة وخاصة بعد غارة ساقية سيدي يوسف إذ خاطب الشعب التونسي خلال حديثه الأسبوعي يوم 23 ماي 1958 قائلا " لابدّ من الجلاء.. إنّي ألحّ أن يتم في أقرب الآجال جلاء الجيش الفرنسي عن تونس" الأمر الذي ساهم في اندلاع مواجهات مسلحة ليلة 24 25 ماي 1958 بين الجانبين التونسي والفرنسي في رمادة وتبعتها مواجهات أخرى متفرقة في المكان والزمان..لذلك يمكن القول أن بورقيبة استغل الظرفية الإقليمية والعالمية للقيام بمغامرة تبدو محسوبة بدقة من قبله وهذا أمر ليس بغريب عن السلوك السياسي للزعيم الحبيب بورقيبة منذ انشقاقه عن الحزب الحر الدستوري،اللجنة التنفيذية،وتزعّمه للحركة الوطنية التونسية:إذ كان بورقيبة رجل المغامرات المحسوبة بامتياز ولكن المعارك الفاصلة تتطلب المغامرة برغم ما ينتج عنها من خسائر تبدو في كثير من الأحيان ضرورية. بقلم: د.عبد اللطيف الحناشي (*) أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن بجامعة منوبة الصباح بتاريخ 15 اكتوبر 2016