يتجدد اللقاء في هذه المساحة مع مدير عام المعهد الوطني للاستهلاك طارق بن جازية للتطرق لعدد من المسائل والمواضيع ذات العلاقة بقفة المستهلك التي أرهقتها سطوة «ثلاثي الشر» من ارتفاع جنوني للأسعار وتدهور مقيت للقدرة الشرائية ومن تضخم يزداد تفاقما، وسط تهديدات بمزيد تأزم الوضع والضغوطات بفعل ما يتردد من توجه نحو تعويم الدينار.. ننطلق في هذا الحوار من موضوع الساعة المتعلق بتخفيض قيمة الدينار والكل يعتقد أن تعويم الدينار سيزيد من إغراق قفة التونسي وسيكون المستهلك كالعادة أول ضحية لهكذا إجراء، فهل تشاطر نفس الرأي؟ -الانعكاس موجود على قفة المستهلك،وهو على علاقة بما يسمى بالتضخم المورد،لأن تراجع سعر صرف الدينار أمام العملات الأخرى سيؤدي إلى ارتفاع كلفة مدخلات الإنتاج وهذا بالنتيجة يترتب عنه ارتفاع في أسعار المنتجات الغذائية بمختلف أنواعها الفلاحية والمصنعة على اعتبار توريد مواد الإنتاج الأولية والمعدات الفلاحية والتجهيزات وغيرها.إلى جانب الانعكاس المباشر على كلفة المواد الموردة الموجهة للاستهلاك والتي بالضرورة ستسجل ارتفاعا في أسعارها. مع الملاحظ أن تداعيات تراجع الدينار تكتسي بعدين الأول إيجابي يتمظهر في تقلص تنافسية السلع الموردة من حيث الأسعار مقارنة بالمحلية الصنع من نفس الصنف وبالتالي يتقلص فارق السعر بين المنتوجين، لكن في المقابل يبقى الأثر السلبي قائما في علاقة بارتفاع أسعار المنتوجات الموردة ومنها النسيج بما يحمل ميزانية المستهلك ضغطا متزايدا. * حلقة مفرغة إذن لا يكفي المواطن ما يتحمله من غلاء أسعار وتدهور قدرته الشرائية وارتفاع مؤشر التضخم ليفاقم تعويم الدينار معاناته. وبالرغم من هذاكنت دوما تصرح بأن الزيادة في الأجور ليست حلا للحد من نزيف تدهور الطاقة الشرائية للتونسي، ما الحل إذن؟ -الزيادة في الأجور إذا لم تقابلها زيادة في الإنتاج والإنتاجية ستؤدي آليا إلى مزيد التضخم وسيصبح للتونسي الكثير من الأموال لكن لن يجد ما يشتري بها. الحل يكمن في الرفع من الإنتاجية التي تراجعت في السنوات الأخيرة بنسبة تقارب17 بالمائة وهذا رقم كبير وخطير. «يلزم الناس ترجع إلى العمل» هذا هو الحل. ولئن يعد مستوى التضخم الحالي4.8بالمائة في حدود المقبول إلا أن تواصل ارتفاعه يشكل خطرا كبيرا. أيضا لا بد من التأكيد على أهمية ترشيد السلوك الاستهلاكي للحد من تدهور المقدرة الشرائية. لكن من يقدر على ترسيخ ثقافة عقلنة السلوك الاستهلاكي للتونسي والحال أن المحدد الرئيسي في استهلاك معظم المواطنين هي الأسعار قبل النوعية والجودة؟ -هنا يأتي دورنا لترشيد الاستهلاك والتنبيه إلىأن ليس البضاعة الرخيصة هي بالضرورة جيدة وأن كل ما يأتي من الخارج ذو جودة. لقد أنجزنا السنة الماضية بحثا حول استهلاك التونسي للمنتوج الوطني وتبين أن 1على 5 مستجوبين يجهل بداية الترقيم العمودي للمنتوج المحلي والذي يرمز إليه برقم619. مع الملاحظ أن28بالمائة من المستجوبين يخلطون بين هذا الرقم ورقم 216 الخاص بالرمز الهاتفي الدولي لتونس. وكشفت الدراسة أن 7بالمائة فقط يعطون الأولوية في الشراء للمنتوج التونسي فيما ترتفع هذه النسبة في فرنسا إلى حدود63بالمائة. ويمثل السعر بالنسبة ل63بالمائة من المستجوبين المرجع الأساسي لتحديد عملية الشراء. ويمنح20بالمائة من المستهلكين الأولوية في شراءاتهم للمنتوج الأجنبي. ويكتسي المنتوج التونسي جودة متوسطة بالنسبة ل52بالمائة من المستجوبين .فيما تتدنى هذه النسبة إلى 4بالمائة لمن يعتقد في الجودة العالية للمنتوج الوطني. وتشكل الصناعاتالتقليدية الاستثناء الوحيد في معيار الجودة العالية بنسبة76بالمائة. الأسعار في مرمى الحكومات المتعاقبة بماذا تفسر عجز الحكومات المتعاقبة وفشلها في الحد من انفلات الأسعار؟ - هو ليس عجزا إنما اعتقد أن الرؤية يجب أن تستند إلى استراتيجية أو مقاربة شاملة.على اعتبار تداخل العوامل والعناصر المؤثرة في الأسعار خاصة في المواد الفلاحية.. من الأسباب المؤثرة في ارتفاع الأسعار أيضا محيط الأسواق وما يسجل بها من تحويل وجهة المنتوجات التي هي في طريقها إلى أسواق الجملة حيث يعمد تجار إلى طلب اقتناء البضاعة من الفلاح قبل وصولها إلى مداخل السوق ويتولون بيعها بأسعار مرتفعة. العوامل كثيرة ومتعددة لكن أيضا للمستهلك دور في ما يحدث لأنه لم يطور ويغير من نمطه الاستهلاكي وهذا معطى رئيسي وجب الانتباه له جيدا.. إلى متى غياب الرؤية الشاملة لدى الحكومة وهل إلى هذا الحد بات ملف الأسعار عصيا على أصحاب القرار؟ -... عوائق كبيرة تحول دون المعالجة السريعة لهذا الملف منها قلة الإمكانيات البشرية واللوجستية في ما يتعلق بمنظومة المراقبة الاقتصادية. يوجد حاليا350عونا لمراقبةحوالي425 ألف نقطة بيع بكامل الجمهورية .فهل بهذا العدد يمكن تغطية كامل النقاط؟.مع الملاحظ أن سلة المقدرة الشرائية للمواطن لا تقتصر على الخضر والغلال واللحوم وإنما تشمل عديد النفقات من أدوية وعلاج وخدمات بريدية وتعريفات طبية كلها شهدت ارتفاعا في أسعارها... * التبذير سلوك عام من المفارقات أنه بقدر ما يتذمر التونسي من غلاء المعيشة ومن شطط الأسعار بقدر ما يتهم بالتبذير.. ما هي قراءتك لهذه المعادلة المختلة؟ -الأرقام والمؤشرات المتوفرة تشير إلى أن كل الفئات تمارس التبذير من الجنوب إلى الشمال نساء ورجالا من مختلف الشرائح الاجتماعية دون استثناء. لكن الإشكال يرتبط بوجود نمط استهلاكي معين يجعلك تبذر دون أن تشعر بذلك أو تنتبه للأمر..الأمثلة كثيرة وتم تشخيصها في عديد الدراسات التي قمنا بها ولعل مثال الخسائر الفادحة التي تسجل في مادة الخبز والتي يقدر فيها حجم التبذير ب 900 ألف خبزة يوميا بقيمة 300 ألف دينار في اليوم الواحد يغني عن التعليق. * سوق الزوالي.. أعتقد أن الوضع تغير حاليا بحكم ضغط الإمكانيات المادية للتونسي وما تفرضه موجات الأسعار المتقلبة من تغيير في هذا السلوك وتوجيه استهلاك نحو «اللازم في اللازم»؟ - إلى حد ما.. إن واقع السوق وضغوطاته يفرض تغيير السلوك حتى أن ظاهرة أسواق الفقراء الواقعة بمحيط الأسواق التقليدية أخذت في التوسع والبروز من خلال ظهور بعض نصبات بيع المواد الفلاحية على سبيل المثال طماطم وبطاطا وتفاح فاسد وبنوعية رديئة يقبل عليها ضعفاء الدخل بسبب عامل السعر أو ما يعرف بالمقارنة السعرية تجاه ما يعرض داخل الأسواق. هذه «النصبات» وجدت سابقا وتطورت في السنوات الأخيرة. إلى هذه الظاهرة عاد بقوة أيضا «كارني الكريدي» لدى العطار..؟ -صحيح هذا موجود،، كما تطورت أيضا نسب تداين التونسي لدى البنوك وبحسب آخر الأرقام الصادرة في موفى ديسمبر2016ارتفع حجم الديون المتخلدة بذمة الأسر التونسية لدى البنوك في حدود 20.5مليار دينار في إطار ما يسمى قائم القروض.وهو رقم كبير ينمو بنسق سريع بنسبة تقارب 17بالمائة سنويا. هذا يعني انه لا مفر للتونسي من الاقتراض لتلبية احتياجاته الحياتية؟ - هناك فعلا من يتداين اضطرارا لمجابهة كلفة نفقات التعليم والدراسة لأبنائه وتوفير العلاج والمتطلبات الأساسية لكن هناك أيضا من يقترض «انتحارا» رغبة في المحافظة على نمط حياة معين رغم كل الضغوطات المسلطة على ميزانيته. التونسي عموما يرفض حالة الحرمان وهذا ما يفسر في جانب ما إقباله على الاقتراض. في هذا السياق سينطلق المعهد هذه السنة في إنجاز دراسة حول واقع التداين الأسري بالتوازي مع دراسة أخرى حول تطور القدرة الشرائية للتونسي. 12بالمائة يستفيدون من الدعم في علاقة بنفقات الدعم صرحت سابقا أن نسبة المستفيدين الحقيقيين من الدعم لا تزيد عن12بالمائة، والبقية أين تذهب؟ - البقية تؤول للعائلات المتوسطة والمسالك غير المنظمة.حتى أن الزيت النباتي المدعم وجدنا انه يستعمل في صناعة الدهن والبيوفيول وفي محلات المرطبات وغيرها،فيما المستهلك الحقيقي المحتاج لهذه المادة لا يستفيد منها. السكر كذلك يطرح نفس الإشكال. وبعد رفع الدعم عنه بالنسبة للصناعيين واعتماد السعر الحقيقي لوحظ انكماش الإقبال على طلبيات التزود بهذه المادة لدى ديوان التجارة وصارت عملية تحويل لوجهة السكر المدعم الموجه للأسر لأغراض صناعية وتجارية. ومع ذلك سجلت أسعار المواد المستعملة للسكر المدعم ارتفاعا ملحوظا. ومن الطرافة أن المشروبات الغازية الخالية من السكر زاد سعرها300مي والحال أنها دون سكر. إلى متى يتواصل التمعش من صندوق الدعم دون وجه حق،وهل من حلول؟ - الحلول موجودة وعديدة لكنها تظل مرتبطة بتحديد من المحتاج ومن المستفيد من الدعم؟ الإشكال يكمن في تعريف الفقر. وتباين مفهومه وحدوده .لان الطبقة المتوسطة هي الأخرى في تآكل بعد تراجع نسبتها من 80 إلى67 بالمائة وهناك من يرى أنها تحتاج لاستهلاك المواد المدعمة. وهناك من يدرج مفهوم الفقر الغذائي والفقر المرتبط بظروف العيش القاسية حتى للعائلات التي تتوفر على مرتبين، ما يعكس تداخل البعد الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي في هذا الملف. استهلك تونسي.. حملة استهلك تونسي التي أطلقها المعهد السنة الماضية بمناسبة رمضان لم تخرج عن دائرة الظاهرة الظرفية والمناسبتية وهذا لا يرسخ لثقافة التشجيع على استهلاك المنتوج الوطني. - المسألة مرتبطة بقلة الإمكانيات وما يتطلبه مجهود التحسيس والتوعية من موارد مالية يفتقدها المعهد بالنظر للميزانية الضعيفة المتوفرة في هذا الجانب، في ظل غياب التعاون مع مؤسسة التلفزة الوطنية. ومع ذلك سنعمل على بعث قناة إلكترونية تنطلق خلال شهر رمضان لترسيخ ثقافة استهلك تونسي. منية اليوسفي