قال رئيس الحكومة التونسية حمادي الجبالي لصحيفة «الشرق الأوسط» إنه كان هناك خطأ في التقييم قبل الدخول إلى الحكم، وإن الأمر بدا أسهل مما هو عليه، لكن اتضح بعد الممارسة الفعلية أن «الأمر صعب جدا ومعقد، ولا بد أن نعي أنه من غير الممكن انتظار سقف عال في التشغيل وفي البنية التحتية وفي الخدمات لا يمكن تحقيقها بسرعة كبيرة، لكن يمكن أن يكون الإنجاز أفضل». وأضاف أن «تونس في محطة فاصلة فإما أن ننجح جميعا أو لا قدر الله نسقط ونسيء لثورتنا وبلادنا»، وأنه على الحكومة أن تبدأ بأولويات معينة وتصارح شعبها، وأوضح: «أنا أقول هناك نقص، وقد انجررنا إلى خطب آيديولوجية وربما إلى مجاملات، لتلبية رغبات». «الشرق الأوسط» التقت رئيس الوزراء التونسي في تونس وكان لها معه الحوار التالي * كيف تقيمون عمل حكومتكم بعد سنة من تسلمكم الحكم؟ - سأكون موضوعيا وصريحا، من المؤكد أن هناك مسائل إيجابية واضحة للعيان؛ فالاقتصاد ارتقى من نسبة نمو تحت الصفر إلى نسبة تتراوح بين 3.4 و3.5 في ظرف عام، وهذا لا يعتبر سهلا في ظرف أمني واقتصادي ومالي واقتصادي دولي صعب، كما نمت نسبة الصادرات، ولدينا مؤشرات اقتصادية أخرى واضحة، لكن هذا لا يخفي مؤشرات سلبية مثل البطء في إنجاز المشاريع لأسباب كثيرة؛ قانونية وأمنية واجتماعية. كذلك في التشغيل هناك نقاط إيجابية، فبكل صراحة توفير 100 ألف موطن شغل أو أكثر في وضع صعب، وإنزال مؤشر البطالة من 18.7 إلى 17 أنا أعتبره أيضا إيجابيا، لكن مع الأسف هذا لم يمس الشريحة الحساسة، خاصة مجال البطالة في صفوف أصحاب الشهادات العليا، وهذه نقطة ضعف يجب تكثيف الجهد فيها، وبطبيعة الحال كان هناك خطأ في التقييم قبل الدخول إلى الحكم وأن الأمر أسهل من هذا.. لكن الأمر صعب جدا ومعقد، ولا بد أن نعي أنه من غير الممكن انتظار سقف عال في التشغيل وفي البنية التحتية وفي الخدمات لا يمكن تحقيقها بسرعة كبيرة، لكن يمكن أن يكون الإنجاز أفضل. * الرئيس البرتغالي السابق جورج سامبايو قال في حوار مع «الشرق الأوسط» إن بلاده احتاجت إلى 7 سنوات لوضع القطار على السكة وبناء الدولة بشكل صحي.. فهل ستحتاج تونس لمثل هذا الوقت للنهوض؟ - كل الذين قادوا تجارب الثورات مثل البرتغال، بولونيا، كلها تقول الكلام نفسه.. لماذا؟ لأنه بعد الثورة أو بعد تحرير الكلمة، والتنظيم، كل الناس يطالبون وفي الوقت نفسه، سواء 150 ألف عاطل يطالبون بالعمل الآن، والفقراء يريدون تحسين أوضاعهم الآن، البنية التحتية تريد تغييرا فوريا وخاصة في الجهات المحرومة. وتجربة البرتغال التي تعتبر عريقة ومتقدمة واحتاجت لهذه المدة، فما بالك بالوضع الذي وجدنا عليه تونس؟ حقيقة ركام وخاصة في الجهات المحرومة، وهذا يتطلب سنوات، وأرى أن تونس ستحتاج حتى 2020 إلى الجهد والعمل، وأنا أؤكد على قيمة العمل، ومن دونه وإذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن من التواكل وانتظار الصدقة وانتظار المنحة، فلن نفعل شيئا ولن نحقق أهداف ثورتنا، نحن الآن في حاجة إلى الإيمان بقدسية العمل والجهد والإبداع؛ ولذلك يجب أن نعمل على توفير المناخ المناسب، من الناحية الاجتماعية، ولا يمكن الآن أن ندخل في دوامة عمل اجتماعية، كما شهدنا في هذه السنة ارتفاعا في الأجور وارتفاعا في صناديق التعويض، ونقصا في العمل والجدية، فمن غير المعقول أن نطالب بمزيد من الأجور ومزيد من التحسين في العمل؛ أي أنه ليست هناك ثروة ننتجها. * نفهم من كلامكم أن اللوم يعود على المجتمع؟ - على الجميع.. الحكومة التي يجب أن تبدأ بأولويات معينة وتصارح شعبها، وأنا أقول هناك نقص، انجررنا إلى خطب آيديولوجية وربما إلى مجاملات، لتلبية رغبات. ثم إلى الأطراف الاجتماعية، وخاصة النقابات التي يجب أن تعرف أن اختيارنا وطني، فنحن ما هي أولوياتنا؟ أولويتنا التشغيل، والتنمية الجهوية، وتحسين الأجور، وهذا يمكن أن ينتظر عاما أو عامين، ولا أقول لا نحسن، ولكن لا نحسن بهذا الشكل، فإذا كانت للمطالب الاجتماعية انعكاسات أمنية، اضطرابات، قطع الطريق، منع العمل في مؤسسات، غلق مؤسسات، وخاصة أجنبية، وغير ذلك من الأمور، فهذه الوضعية لا تساعدنا، ودول مثل اليونان وغيرها المواطنون فيها ضحوا بجزء من رواتبهم، لكن كما قال الاتحاد لا بد من تقاسم العبء، وأن نحدد مطالبنا مثل رجال الأعمال الذين يجب أن يكونوا على وعي بأن هناك ثورة حدثت في البلاد، وأن ينظموا أنفسهم على هذا الأساس، وإعادة التفكير والنظر حتى في الجوانب الربحية. * هل تعتقد أن رجل الأعمال عندما تمس مصالحه، أو المواطن عندما يشعر بأنه سيتضرر ماليا هل سيقبل بهذا؟ - حتى يخرج المواطن من هذه المزايدات يجب أن يفهم أن البلاد خرجت من الثورة وهي محطمة، وأن التركة صعبة جدا. أنا أتوجه للمواطن وأقول له إن هنالك أشياء يمكن أن ينتظروها ويؤجلوها، ومن له عمل وضعيته أفضل ممن لا عمل له، لذلك نتوجه لأن تكون الأولوية للعاطل، هناك أشياء فيها أولوية. وبالنسبة للكماليات مثلا، الآن هناك نقص في الحليب وهو أساسي، لكن إذا نقصت أشياء أخرى مثلا أو ارتفع قليلا سعر المحروقات وهي مرتبطة بالبريل العالمي، هذا لا بد من تقبله، ونتوجه إلى رجال الأعمال الذين لهم دور والذين لا بد أن يتشجعوا ويعانوا قليلا مثلما غامروا وقت السلطة الفاسدة، نحن نطالبهم بالمغامرة في مناطق الحاجة وأن يستثمروا، ويفتحوا مشاريع، وصحيح أنه على الحكومة تهيئة البنية التحتية من أمن وغيره، لكن يجب أن نقوم بهذا جميعا ومعا، لكن المشكلة أن تونس في محطة فاصلة، فإما أن ننجح جميعا أو لا قدر الله نسقط ونسيء لثورتنا وبلادنا. * نشعر من خلال كلامكم بتغير في خطابكم، فأشرتم بالقول «يكفي من المجاملات» وكأنكم اضطررتم للمجاملة، فهل اضطررتم للقيام بأعمال لم تكن أولويات وقدمتموها على حساب أمور أخرى؟ ألا ترون أن هذا التغيير - إن صح التعبير - في مواقفكم يمكن أن تستغله وتسيسه أطراف المعارضة، واستغلال التونسي الذي في الشارع بتوجيه مثلا خطاب له يقول بأن «الحكومة غيرت لغتها، ولم تفِ بوعودها» إلى غير ذلك؟ - الجميع وعدوا، ففي الخطاب الانتخابي كل واحد يعد ب«الجنة»، والفارق بين الحكومة والآخرين في الوعود أن الحكومة تمارس وتمس الواقع، وهناك معارضة جادة ومسؤولة وتقول صحيح أن في بلادنا مخاطر وصعوبات ونحن نقدر هذا ونطالبكم بالتصحيح وإجراء إصلاحات. لكن هناك معارضة هي انتصبت، ولا يهمها ما تقوم به الحكومة أن أنجزت أو لم تنجز، إن حققت أرقاما إيجابية أو لم تحقق، فهي خطابها آيديولوجي، تحريضي بحت، ونحن نقول إن هذه الديمقراطية، وأتوجه للشعب التونسي ولا أتوجه لنخب سياسية، وأقول له إن وضع البلاد بين يدينا يحتاج إلى صبر، ولكن كلمة الصبر لم تعد تقبل الآن. * هل يسبب هذا ضغطا على عملكم؟ - كثيرا، والجميع الآن يريدون التشغيل والبنية التحتية، بشكل ما، وحتى الآن ترى المطالب الاجتماعية، يريدون الزيادات في الأجور ولا يريدون أن يفهموا كيف تأتي، هم يطالبوننا بأن ندبر أمورنا ويريدونها فورية، وأن لا ترفع الأسعار، وصحيح أن الترفيع يمس الطبقة الضعيفة وما زلنا نعتبر، بالتالي ما هي المصارحة؟ المصارحة أن وضع بلادنا إما أن نصبر عليه جميعا ونعتبره صعبا، وأنه بإمكاننا أن نخرج معا إلى آفاق أرحب بالتنمية وبالأمن بالأجندة السياسية التي نسرعها، وبالانتخابات وبتأسيس جمهورية ثانية بمؤسساتها الديمقراطية.. هذا هو المفتاح الذي سيجعلنا أكثر أمنا وأقل تجاذبات سياسية، ونمضي بعد ذلك نحو مشكلاتنا السياسية بعد إغلاق هذا الباب بالانتخابات والمؤسسات؛ نتجه نحو العمل والجد ونضحي ونصبر على بلادنا، فلا يمكن أن لا نخلق الثروة ونطالب بالمزيد، يجب خلق الثروة ونحن ليس لدينا لا بترول ولا غاز، ولا حتى الماء، لدينا العنصر البشري الذي يعتمد على الإبداع، وهو الاستثمار وفتح شركات، حتى وإن كانت صغيرة، وحب العمل والتكوين المهني وأن يكون مقدسا، الناس اليوم كلهم يتهربون من الأعمال اليدوية والحرفية، 120 ألف موطن شغل الآن في البلاد غير ملباة في كل القطاعات، وخاصة البناء والزراعة وحتى الصناعة والخدمات، لأن العاطلين غير مؤهلين، وهذا ما يعني في نهاية الأمر أن خريجي جامعاتنا من العاطلين و«تخرجهم» ليس لأنهم لم يجدوا عملا؛ بل لأن اختصاصهم غير متوفر أو الجامعة كونتهم بشكل لا يتناسق ولا يستجيب لتحرك سوق الشغل ومطالبها، بالتالي هنا الأزمة، ولا بد من إصلاحات جوهرية في منظومة التعليم والتكوين والصحة والسياحة والمنظومة المالية، وهذه الإصلاحات لن تأتي في يوم وليلة، وبالتالي لا بد من وعي، وهذا الوعي ينطلق من أرض السياسة، وأنا قلت دائما إن مشكلة التونسي في النخبة، ولا أريد أن أقول مصيبتها في نخبتها، أنت انظر إلى الإعلام كيف يصعد وانظر إلى المشكلات والمواقع الاجتماعية.