يبدو أن الأحزاب التونسية المشاركة في الانتخابات البلدية بدأت تنتهج خطاباً جديداً مغايراً لما كانت عليه الحال قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة، فرغم البيانات الانتخابية التي تضمنت انتقاداً لاذعاً للخصوم، حرص معظم الأحزاب على الابتعاد عن الخطاب «الأيديولوجي» الذي يستهدف فئة محددة من التونسيين، واللجوء إلى خطاب «براغماتي» يحاول استقطاب جمهور المنافسين. وتجلّى هذا الأمر بشكل خاص من خلال المرشحات المتنافسات في الانتخابات المقبلة، حيث نشاهد لجوء الأحزاب الإسلامية كحركة «النهضة» إلى الاستعانة بمرشحات غير محجّبات أو حتى «متحررات» في لباسهن، فيما نجد أن حزب «نداء تونس» الذي عادة ما يتبنى خطابا «حداثيا»، لجأ إلى مرشحات محجبات أو ملتزمات دينيا، وذات الشيء نراه عند بعض الأحزاب اليسارية ك«الجبهة الشعبية» (أكبر تكتل يساري)، على أن الأخيرة تضم أساسا بين صفوفها نواباً وقيادات محجبة، أي أن الأمر لا يقتصر فقط على الانتخابات البلدية. ويفسّر المؤرخ والباحث السياسي د. عبد اللطيف الحنّاشي خطاب «الصورة» الذي يعتمده معظم الأحزاب المشاركة في الانتخابات البلدية بقوله: «للأسف، ما زال الصراع الأيديولوجي في تونس هو الذي يتحكم في أغلب المعارك ذات الطابع السياسي وحتى الاجتماعي أحيانا، فتوظيف صورة المرأة أو جسدها هو نوع من الاستهلاكية، ولكن لا أعتقد في هذه المرحلة أن الشعب التونسي تنطلي عليه مثل هذه الأساليب، فقواعد النهضة غير مقتنعة بما تقدمه الحركة من صور للمرأة، لأن معظم القواعد ملتزم بالمبادىء الأساسية والأصلية ل«النهضة»، وانخراطها في الأطروحات الجديدة للحركة يبدو أنه محدود، وكذلك بالنسبة لبقية الأحزاب، فالنداء لا يستعمل الحجاب أساسا وقواعده غير مقتنعة به، وكذلك الجبهة الشعبية وإن كانت الجبهة لديها قواعد تلبس الحجاب منذ البداية أي قبل الثورة». ويضيف ل«القدس العربي»: «أعتقد أن تأثير هذا الخطاب (القائم على توسيق صورة المرأة) سيكون محدوداً، لأننا أمام انتخابات بلدية أي أن أغلب المترشحين فيها معرفون عند الناخبين. بل ربما يكون تأثير هذا الخطاب سلبي، وخاصة أن الناس يعلمون أنه طارىء وهدفه كسب ود الناخبين، ولا بد من الإشارة إلى أن خطاب الأحزاب السياسية في الانتخابات التشريعية كان إيديولوجيا، والآن انقلبوا على هذا الخطاب واستبدلوه بالبراغماتية لأهداف انتخابية كما أسلفت». ويوافق الخبير الدستوري والمحلل السياسي جوهر بن مبارك المؤرخ عبد اللطيف الحناشي في بعض النقاط التي أشار إليها، إلا أنه يقدم في الوقت ذاته أكثر من قراءة لهذا الخطاب الانتخابي للأحزاب التونسية، حيث يرى أن الأمر قد يشكل نوعاً من «النفاق السياسي والمراوغة الانتخابية واستعطاف الناخبين وجلب ناخبين جدد إلى هذا الجانب أو ذاك». ويضيف: «ثمة قراءات أخرى ترتبط بما حدث في المجتمع التونسي بعد تجربة سبع سنوات من الانتقال الديمقراطي ، حيث كان هناك استقطاب (أيديولوجي) عميق على امتداد السنوات الخمس الأولى بين العلمانيين والإسلاميين وخاصة في مرحلة كتابة الدستور، هذا الاستقطاب بدأ يتراجع في ذهن المجتمع التونسي قبل القوى السياسية، بمعنى أن الأحزاب السياسية الآن تتعامل مع واقع آخر موجود يخترق المجتمع التونسي وهو الخلاف أو الاستقطاب السياسي وليس المجتمعي، حيث نرى مرشحات من نداء تونس ومن الجبهة الشعبية اليسارية محجبات ونرى في قوى أخرى محسوبة على الإسلام السياسي كحركة النهضة مرشحات سافرات غير محجبات، وهذا ربما يدل على أن المجتمع التونسي استطاع التعامل بشكل جيد وفعال مع أزمة الإسلام السياسي». ويوضح أكثر بقوله: «بمعنى أننا كنا بعد الثورة نخشى من هيمنة الإسلام السياسي لفترة طويلة، ولكن أعتقد أن المجتمع في السنوات الأربع الأولى بعد الثورة استطاع التعامل بشكل ديمقراطي وحضاري مع هذه الظاهرة، وتمكن من ردّها إلى حجمها الطبيعي بحيث أصبحت مسألة خيارات سياسية، أي اختلافات في الرؤى والتوجهات السياسية وليست مسألة اختلاف في الهوية، لأن انقسام الشعب التونسي على أسس تتعلق بالذاتية والهوية قد يؤدي إلى صراعات مدمرة للمجتمع، وأعتقد أن الوضع الآن داخل المجتمع التونسي أفضل بكثير مما كان عليه قبل خمس سنوات، وربما هذا أقل لدى الطبقة السياسية ولكن المجتمع بدأ يتعامل بشكل من العقلانية مع هذا الأمر». ويدعو بن مبارك، التونسيين إلى التمييز بين المرشحين للانتخابات البلدية «ليس على أساس الشكل أو اللباس أو الهوية وإنما على أساس الخيارات السياسية، فنحن لدينا نساء غير محجبات وينتمين إلى حركة النهضة وهي حركة ليبرالية ويمينية على مستوى الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، ومن جهة أخرى، نجد محجبات ضمن قائمات اليسار الاجتماعي، وهذا هو الاستقطاب الحقيقي الذي يجب أن نركز عليه، وهو استقطاب في الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وليس استقطاباً على مستوى الذاتية والكينونة والهوية» (القدس العربي)