أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    العاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025): التونسية اريج عقاب تحرز برونزية منافسات الجيدو    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    بنزرت: ماراطون "تحدي الرمال" بمنزل جميل يكسب الرهان بمشاركة حوالي من 3000 رياضي ورياضية    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    عاجل: أولى الساقطات الثلجية لهذا الموسم في هذه الدولة العربية    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    حجز أكثر من 14 طنا من المواد الفاسدة بعدد من ولايات الجمهورية    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    هذا هو المهندس على بن حمود الذي كلّفه الرئيس بالموضوع البيئي بقابس    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    تونس تحتفي بالعيد الوطني للشجرة في ضوء جهود تشاركية لرفع نسبة الغطاء الغابي وحماية التنوع البيولوجي بالبلاد    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    تونس تطلق أول دليل الممارسات الطبية حول طيف التوحد للأطفال والمراهقين    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    خطير: النوم بعد الحادية عشرة ليلاََ يزيد خطر النوبات القلبية بنسبة 60٪    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    الجزائر.. الجيش يحذر من "مخططات خبيثة" تستهدف أمن واستقرار البلاد    التشكيلات المحتملة للدربي المنتظر اليوم    شوف وين تتفرّج: الدربي ومواجهات الجولة 14 اليوم    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    مالي: اختطاف 3 مصريين .. ومطلوب فدية 5 ملايين دولار    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    الدورة 44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب: 10أجنحة تمثل قطاع النشر التونسي    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    من كلمات الجليدي العويني وألحان منير الغضاب: «خطوات» فيديو كليب جديد للمطربة عفيفة العويني    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    البنك المركزي: نشاط القطاع المصرفي يتركز على البنوك المقيمة    الدورة الاولى لمهرجان بذرتنا يومي 22 و23 نوفمبر بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    بايدن يوجه انتقادا حادا لترامب وحاشيته: "لا ملوك في الديمقراطية"    جلسة عمل بوزارة الصحة لتقييم مدى تقدم الخطة الوطنية لمقاومة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب آسيا العتروس "عاشقة في رحاب صاحبة الجلالة .. إعلام الثورة وثورة الإعلام " أو عين الآسية على المشهد الإعلامي التونسي
نشر في الصباح نيوز يوم 18 - 01 - 2019

لأنّنا أُمَّة لا نقرأ ولا نكتب إلا بمقدار، فكلّ إصدار جديد يعدّ حدثا وجب الاحتفاء به وتوجيه الثناء والتقدير إلى من تحدّى العراقيل والصعاب وتعلّقت همّته بكسر جدار الجمود الفكري الذي أصاب قطاعات واسعة من مجتمعاتنا، بما في ذلك الفئات المتعلّمة ، وذلك لنشر الكلمة الحرّة الهادفة، مساهمةً في رفع درجة الوعي بالقضايا الحارقة وإثراء الحوار بشأنها وطرح الرؤى والبدائل لمعالجتها.
وَإِنِّي أقدّر للأستاذ عبد اللطيف عبيد الأمين المساعد لجامعة الدول العربية مدير مركز تونس حرصه الدؤوب على فتح فضاء المركز للكتاب والشعراء والمبدعين في شتّى المجالات لتسليط الضوء على أعمالهم التي لا يمكن إِلَّا أن تكون لبنات تضاف إلى صرح الثقافة والعلوم ولحركة الإبداع في الوطن العربي، شاكرا له دعوته الكريمة لتقديم كتاب "عاشقةٌ في رحاب صاحبة الجلالة، إعلام الثورة وثورة الإعلام" للصحفية السيدة آسيا العتروس.
وإنّه لمن دواعي سروري وسعادتي أن أشارك في الاحتفاء بصحفية قديرة، مجتهدة وبوجه بارز من وجوه دار الصباح والإعلام التونسي عموما، يعتبرها الأستاذ الشاذلي القليبي، في تحيّة خصّها بها بمناسبة صدور هذا المؤلَّف، " من الأقلام النسائية اللامعة التي تمتاز باختيار المواضيع الحيّة، تطرقها بدقّة ، وتستخلص منها
العديد من العبر، شأنَها الدائم أن تُقدم على معالجة القضايا التي غيرها في غفلة عنها أو في احتراز منها. وأنظارها تشمل ما يهمّ بلادها، ولكن أيضا ما يتعلّق بمجتمعات عربية، عامّة ، أو بدول لها، في قضايا عربية، ضلع فيها : تتناول هذه وتلك برصانة العقل، متنكِّبة للشعارات الرائجة". فهل من شهادة أبلغ صدقا وتعبيرا من هذه الشهادة الصادرة عن رجل لا يُعرف عنه ميل إلى المجاملة وهو المثقّف ذو الأفق الواسع والسياسي المحنّك والخبير المتمكّن من الشؤون العربية والدوليّة والإعلامي المبرّز الذي كان من الأوائل الذين انضموا إلى أسرة جريدة "الصباح" بعد صدورها في غرّة فيفري 1951 فكانت له فيها إسهامات قيمّة؟
أودّ أن أنطلق في تقديم هذا الكتاب من ملاحظات عامّة لا مناص في تقديري من ذكرها :
أوّلاها أنّه باستثناء مقالات متناثرة منشورة هنا وهناك تطرّقت إلى قضية الإعلام وإشكالاتها بعد ثورة 14 جانفي 2011 في سياق ما توفّر بفضلها من مناخ غير مسبوق من الحريّة والديمقراطية، لم يصدر- على ما أظنّ - كتاب تناولها بجرأة وعمق وتوسّع مثلما تناولتها آسيا العتروس . ولعلّ ما لاحظَته من قصور في الاهتمام بالمسألة هو الذي دفعها إلى إنجاز هذا العمل الذي وضّحت الغاية منه بقولها "إنّه في زحمة العناوين المتنافسة على رصد أحداث الثورة وقراءة ما يمكن أن تحمله في طيّاتها من تحوّلات آنية ومستقبلية لم نشهد ما يمكن اعتباره عنوانا جامعا شاملا يهتمّ بمشاغل أهل القطاع ، أو يعكس اهتماما جديًّا بمهنة المتاعب ... ورغم أهمية كلّ العناوين، فإنّه لم يكن بينها عنوان صادر من عمق المشهد الإعلامي ليشهد عمّا يحدث خلف الكواليس من انتهاكات وممارسات معيّنة أو ينقل المعاناة اليومية الحقيقة
للإعلاميين في معركتهم المستمرّة من أجل الحريّة والكرامة". (ص 173). لذلك يحقّ لنا أن نعتبر الكتاب محاولةً جادّة لسدّ فراغ في تسليط الضوء على واقع الإعلام التونسي بعد الثورة وإشكالات إصلاحه وللبحث في الدور الذي يُفترض أن تتعهّد به السلطة الرابعة باعتبارها سلطة أخلاقية ومعنوية في تعزيز أركان ديمقراطية ناشئة وتحصينها من مخاطر التراجع والانهيار.
وثانيتها أنّ الكتاب انتصار للإرادة على الشعور بالمرارة والإحباط ، إذ تخبرنا الكاتبة أنّ "هذا العمل الذي استوجب أيّاما طويلة من التقييم والتشخيص والرصد وتدوين الشهادات والانطباعات والتحوّلات والارتدادات التي رافقت المشهد الإعلامي" في تونس " كان على وشك الإنجاز قبل أن يتدخّل سوء الحظّ ويتبخّر الجزء الأكبر منه مرّة أولى ثمّ مرّة ثانية بسبب لعنة التكنولوجيات الحديثة وخطإ غير مقصود أزال أثناء النقر على لوحة الكتابة" ما دوّنته " فحوّلته إلى أثر بعد عين".(ص 36) غير أنّها تمرّدت على ذاتها وعلى مشاعر الإحباط فيها بعد أن كانت على وشك الانصراف عمّا جمعته من أوراق وأفكار وتدوينات مشتّتة وشهادات عبثت بها التكنولوجيا الحديثة لتعود إلى ترتيبها وتوظيبها (ص 122).
وثالثتها أنّه خلافا لما قد يوحي به عنوان الكتاب فقد راوحت المؤلفة فيه بين السرد التاريخي لمسيرة دار الصباح ، هذا الصرح الإعلامي المهدّد بالاندثار، ورسم ملامح الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تونس منذ 14 جانفي 2011 ودور وسائل الإعلام في التبصير بتحدياته وتوصيف المشهد الإعلامي التونسي بمختلف مواطن الوهن وبؤر الأمل فيه والتأمّل في جملة من المسائل تخصّ الإعلام
في تونس وفِي العالم العربي ومنها بالخصوص وضع الصحافة الورقية في ظلّ المنافسة المحتدمة للصحافة الالكترونية والعلاقة ببن الإعلام والديمقراطية ومكانة المرأة في المؤسسات الإعلامية. وبذلك سلكت آسيا العتروس في كتابها مسلك المؤرّخة والآسية لعلل الإعلام التونسي والمفكّرة في قضايا الإعلام والاتّصال في الآن ذاته.
1- التأريخ لمسيرة دار الصباح
من بوابة توصيف المشهد الإعلامي وتحليل أسباب تردّيه تأخذ الكاتبة القارئ في رحلة عبر ثنايا ذاكرة الصحافة التونسية ليستكشف حكاية جريدة الصباح ومسيرتها طيلة 67 سنة بنجاحاتها وإخفاقاتها، بانتصاراتها وانكساراتها فتذكّر بظروف تأسيسها ودوافعه في ظرف تاريخي كانت فيه الحركة الوطنية بقيادة الحزب الحرّ الدستوري في أمسّ الحاجة إلى منبر إعلامي يبلغّ صوتها إلى الجماهير وإلى السلطات الاستعمارية في الآن نفسه، بأسلوب نافذ رشيق وهي تعي دور الصحافة الخطير في التعريف بمواقفها وتوجّهاتها وفِي الردّ على ذرائع فرنسا وسياستها القائمة على المماطلة والمراوغة تجاه القضية التونسية، وذلك أشهرا قليلة قبل اندلاع المعركة الحاسمة من أجل المطالبة بالاستقلال . لذلك سيكون الحزب وراء جزء من تمويل ودعم هذه الصحيفة التي كان الزعيم الوطني والنقابي فرحات حشّاد صاحب فكرة تأسيسها حتّى تصير سندا للبلاد في معركة التحرير.
وبنٓفس ملحمي أحيانا تسرد آسيا العتروس قصّة هذه الصحيفة التي هي في نظرها أكثر من مجرّد عنوان بل هي "ذاكرة وطنية وإرث مشترك وهي أيضا كتاب مفتوح وقصّة نجاح وملحمة نضالية مشتركة ارتبطت بمعركة شعب أحبّ الحياة واستبسل من أجل الحريّة والكرامة والسيادة الوطنية" (ص47). واستنادا إلى مراجع وشهادات تروي الكاتبة قصّة الحبيب شيخ روحه الذي لم يكن اختياره لإصدار الصحيفة "أمرا اعتباطيا أو نابعا من فراغ . فالفقيد الحبيب شيخ روحه الذي سيُصبِح مؤسس الصباح والذي سينجح في الاستثمار في الحلم الذي رافقه مبكرا، لم يُعرف عنه أنّه من الكتّاب أو النقّاد أو الشعراء أو الأدباء أو الإعلاميين الذين اشتهروا في البلاد في تلك المرحلة ولكنه عُرف كتاجر كانت له علاقات واسعة ومتينة مع أهل الأدب والفكر والمسرح، لا سيّما جماعة تحت السور الذين كان يتردّد عليهم ويقتحم مجالسهم ويتعرّف على أصحاب المواهب بينهم، لا سيّما الهادي العبيدي الذي سيتولّى رئاسة تحرير الصباح لاحقا وسيتحوّل إلى أسطورة الإعلام التونسي " (ص52).
ولتقديم هذا العلم الفذّ تعود بنا آسيا العتروس إلى بداياته في عالم الصحافة بعد أن انتدبه الصحفي محمد الجعايبي وهو في سنّ السادسة عشرة وإلى أجواء الثلاثينات والأربعينيات من القرن الماضي عندما كانت جماعة تونس السور تضطلع بدور مهمّ في تطوير المشهد الإعلامي والثقافي والأدبي وتطوير المشهد السياسي (ص 71 وص 72). وعلاوة على التعريف ببُناة الصباح من التونسيين والجزائريين من ذوي الأقلام الماهرة الذين سيكون لهم شأن عظيم في عالم السياسية والدبلوماسية والثقافة والإعلام تتحفنا آسيا العتروس بِ"بورتريه" للهادي العبيدي مؤسّس "المدرسة الوطنية الأولى للصحافة" (ص67) "والمصارع القديم" والعنيد (ص 68) الذي كانت له صولات وجولات في مواجهة رقيب الإدارة الاستعمارية Muhle
وصاحب القولة المؤثورة : "إنّ الصحافة أكثر من وظيفة. إنّها متعة من الألم ".. هذا الرجل الذي ساهم في تكوين أجيال من الصحافيين وظلّ حتّى بعد أن فقد البصر حريصا على ألا يغيب عن قرائه فكان يملي ما عنّ له من أفكار وخواطر. وقد قال عنه المرحوم الأستاذ توفيق بكّار: "شارك مشاركة أساسية في تأسيس جريدة عظيمة أصيلة اقترن اسمها باسم تونس. استمدّت الكثير من خصائصها من خصائص شخصية الهادي العبيدي وهي كما هو وهو كما هي لا يمكن الفصل بينهما ولا يمكن فهم هذه بدون فهم تلك ولا يمكن تحليل ذلك بدون تحليل تلك، فهما كالجسد الواحد أو كالحلقة المتكاملة" (ص75).
وعند استعراض مسيرة دار الصباح التي تحوّلت إلى امبراطورية إعلاميّة بإصدار العدد من العناوين قبل أن يدبّ الخلاف بين الورثة ويضع صخر الماطري صهر بن علي يديه على هذا المنبر الإعلامي الهامّ سلّطت آسيا العتروس أضواء كاشفة على الخطّ التحريري للمؤسسة النابع من حرص على تناول شواغل المجتمع وقضايا الحقّ والعدل في العالم بقدر كبير من الجرأة وعلى ما تعرّضت إليه من تضييقات في العهدين السابقين جراء سياسة تكميم الأفواه ومنع حريّة التعبير. ولم يفتها إبراز جهود أجيال متعاقبة من الصحافيين من أجل الارتقاء بمستوى المادّة المقدّمة للقراء والاستجابة لتطلعاته من أمثال عبد الجليل دمّق وعبد اللطيف الفراتي وصالح الحاجّة ومحمّد قلبي "أسطورة الصحافة الساخرة" و"صاحب القلم الذهبي" و"اللمحة الشهيرة" (ص 247) الذي خصّصت له فصلا في ملاحق الكتاب، إلى جانب شهادتي المناضل والنقابي الصادق بسباس والأستاذ الشاذلي القليبي عن تأسيس الصباح ودورها الريادي في المشهد الإعلامي التونسي.
ولئن استأثرت مسيرة الصباح بأجزاء هامّة من الكتاب فإنه لم يغب عن آسيا العتروس إدراج سيرة ذاتية لرائدة الحركة النسائية بشيرة بن مراد التي ساهمت بالكتابة الصحفية في عدد من الدوريات منها مجلّة والدها الشيخ محمد صالح بن مراد شمس الإسلام (1938) والتي تناولت فيها قضايا المرأة ودافعت عن مصالحها. وقد اعتبرت الكاتبة أنّ بشيرة بن مراد لم تتبوّأ الموقع الذي تستحق بعد الاستقلال سواء في المشهد الإعلامي أو في مجال الدفاع عن المرأة . وتلك كانت في تقديرها من بوادر التنكّر للكثير من الأسماء النضالية التي ساهمت بقوّة في تغيير المشهد في البلاد زمن الاستعمار (ص 238).
2- علل الإعلام التونسي بعد الثورة
توخّت الكاتبة في تناول قضية الإعلام في تونس بعد الثورة منهج الطبيب الفاحص الكاشف لما أصاب جسد صاحبة الجلالة من علل ولما اعترض سبيلها من معوّقات حالت دون نهوضها وذلك قبل أن تقدّم ما تعتبره الوصفة المناسبة كي تسترجع عافيتها وتقدر على الاضطلاع بدورها في إنارة الرأي العام وتوعيته في سياق مليء بالتحديات وفِي ظلّ تجربة ديمقراطية غضّة لا تزال تتلمّس طريقها نحو التعمّق والتجذّر في ثقافة المجتمع التونسي وسلوك أفراده.
تقرّ آسيا العتروس من البداية بأنّ "المشهد الإعلامي ليس بخير" إذ " هو مازال في وضع المخاض العسير بعد سبع سنوات ولم يكتب له الخلاص المنشود" وبأنّ "الأداء الإعلامي بمختلف اختصاصاته لا سيّما الصحافة الورقية لم يتطوّر كثيرا" رغم مناخ الحرية غير المسبوق في البلاد بفضل ثورة الحرية والعدالة . كما أن "أهمّ المنابر الإعلامية في القارة الأفريقيّة وفِي العالم العربي بات مهدّدا في وجوده ورسالته وأهدافه". (ص 20) وهي تعني بذلك الصباح التي "خضعت على مدى سبع سنوات لعملية إفلاس ممنهج بعد مرور أكثر من ستّة عقود على تأسيسها (ص36). وتشبّه آسيا العتروس الإعلام اليوم ب"سوق شعبية تسودها الفوضى وتنتشر فيها البضاعة المغشوشة والمحدودة الصلاحية" (ص 198). وأسباب فساد الإعلام وسقوطه في التردي والابتذال متعدّدة ، في نظر المؤلّفة ، ومن أهمّها:
*عودة الممارسات البغيضة التي كان يُعتقد أنّها اندثرت من المشهد بعد انهيار القيود التي طالما كبّلت الإعلام والإعلاميين في عهدي بورقيبة وبن علي "في ثوب جديد لتعبث بالقطاع وتعيده إلى الوراء وتجعله أكثر القطاعات تخلُّفا في البلاد (ص 161).
*التداخل بين المال والإعلام والأحزاب والسياسة (ص 21) ففي "ظلّ التّحوّلات المتسارعة في زمن الانتقال الديمقراطي انتعشت لعبة المقايضات والمزايدات لتعبث بالمشهد وتعيد تحريك خيوط اللعبة بما يضمن توافق أصحاب المال والإعلام والنفوذ (ص 22).
* فشل أُولي الأمر المهيمنين على القطاع وتعيين مسؤولين تنقصهم التجربة والكفاءة المهنية بطريقة مسقطة على رأس مؤسسات إعلاميّة وتضارب المصالح وغياب الإرادة لإصلاح ما فسد وتهميش الكفاءات بإحالتها "إلى ثلاجة الأحياء" (ص 36).
* تراجع مستوى المؤسسة التربوية والجامعية وتدنّي التعليم وغياب فرص التكوين والتدريب والتأهيل (ص 172).
وقد دفع هذا التشخيص آسيا العتروس إلى التنبيه إلى الدور المطلوب من الإعلام أمام "تحوّل الثورة إلى ثورة للسفسطة والأوهام والخطابات الخاوية بعيدا عن كلّ
رسالة هادفة بلا أثر إيجابي في النفوس" (ص 23) ومخاطر انتهاك الأوطان باسمها وكذلك أمام ظاهرة العزوف عن الاهتمام بالحياة السياسية والجلوس على الربوة (ص 28) فشدّدت على أهمية الرسالة الإعلامية في التوعية وتغيير الواقع (ص 24) والوقوف في وجه كلّ الفتن في مرحلة تأجّج الثورات لتجنّب المتاهات (ص 25).
وإذ تعتبر الكاتبة أنّ إصلاح الإعلام يظلّ أمرا مؤجّلا في تونس (ص25) فإنّها تؤكّد إجابة عن السؤال : أيّ أعلام نريد بعد سبع سنوات من التّحوّلات المتسارعة في تونس أنّ الوصفة التي يحتاجها هذا القطاع "لا يمكن أن تكون مستوردة أو مستنسخة يتمّ إسقاطها على المشهد بل يجب أن تكون نابعة من تشخيص دقيق لما بلغه المخاض المستمرّ" لتحقيق هدف أساسي "يكمن في الجمع بين ضمان حريّة الرأي والتعبير وجودة الإعلام ورقيّه" (ص 26).
لم تقدّم آسيا العتروس في الحقيقة تصوّرا شاملا لإصلاح الإعلام التونسي بمختلف مكوّناته ولا سيّما القطاع السمعي البصري بل ركّزت كلّ اهتمامها على إصلاح دار الصباح الذي اعتبرته "منطلقا لإصلاح سيبعث برسائل إلى كلّ المؤسسات الإعلامية " ولتجربة واعدة في هذه المرحلة (ص 135). لذلك أدرجت في ملاحق الكتاب "مشروع ورقة لإصلاح دار الصباح" التي بدونها "سيظلّ المشهد الإعلامي في بلادنا مبتورا يتيما بلا روح" (ص 133) وفق تعبيرها.
ومن أركان إصلاح الدار في تقديرها:
* التعجيلُ بتقييم الأوضاع داخل المؤسسة في كل قسم من أقسامها بما يشمل تحديد الإمكانيات البشرية والمادية المتوفّرة وتحديد النقائص ثمّ تحديد إجراءات الإصلاح على أن تتوازى هذه الإجراءات مع تغيير في العقليات وفِي طريقة التسيير.
* تعزيزُ بعض الأقسام ومنها بالخصوص قسم الشؤون الثقافية من حيث الإطار البشري وصرف مكافآت مجزية للمراسلين.
* الاهتمامُ بصفحات الشؤون الدولية التي أُهملت ممّا جعل الجريدة تفقد الكثير من قرائها ومن المهتمين بالشأن الدولي.
* مشاركة أبناء الدار الذين لهم القدرة على تحديد الأولويات في إعداد المشروع الإصلاحي الذي ينبغي أن يقترن بخطة واضحة ومحددة تهدف إلى الترفيع في المبيعات وترتقي في الآن نفسه بالمضمون الذي فقد الكثير من بريقه.
* ارتباطُ أبناء الدار بميثاق أخلاقي مشترك يكون ضمير المؤسسة ومرآتها.
* تحديد مهام التحرير وإخضاعها لشروط وإمكانية الاستغناء عن منصب مدير التحرير.
* الفصلُ بين الإدارة والتحرير وتجنّب تداخل المهام والأدوار بين مكتب الإشهار وبين التحرير.
* الاستثمارُ في الطاقات البشرية والاستفادة من الجهود المشتركة لمختلف الأجيال وتطعيمها بمشروع مستقبلي قابل للبقاء والتطوير.
* البدءُ في تنقية الأجواء وتوفير المناخ المطلوب الذي يساعد أبناء الدار على العمل ويحفّزهم على الأفضل.
3-تأمّلات في قضايا إعلاميّة واتصالية
تجاوزت الكاتبة التأريخ لمسيرة دار الصباح وتشخيص مواطن الداء والوهن في المشهد الإعلامي التونسي لتتناول بالتحليل والتمحيص قضايا إعلاميّة واتصالية على غاية من الأهمية.
خاضت في مسألة استخدام التكنولوجيات الحديثة في المجال الإعلامي لتقنع القارئ بدور الصحافة الورقية " في إنارة العقول وتبديد غيوم الجهل والظلامية وسحب البساط أمام المساعي الغربية المفضوحة التي تروِّج لزوال متعتها" (ص 138) ولتبيّن الفرق بين "متعة قراءة الصحافة الورقية وبين سكون جليدي توفّره المواقع الالكترونية (ص139). وخلصت انطلاقا من عدد من الأمثلة إلى التأكيد أنّ أزمة الصحافة الورقية مبالغ فيها وأنّ هذا النوع من الصحافة ليس صناعة خاسرة كما يدَّعيه كثيرون وبالتالي لا يمكن أن تموت تحت وقع الزمن، معتبرة أنّ الدمج بين المكتوب والرقمي ممكن في مجال الصحافة.
ومن وحي حضورها اجتماع وزراء الإعلام العرب في سنة 2015 في القاهرة تساءلت عن جدوى وجود وزارات للإعلام في العالم العربي في حين أنّ أغلب الديمقراطيات تخلّصت منها، مستنتجة غياب الإرادة لإصلاح الإعلام العربي، بالإضافة إلى غياب الحريّة في العديد من الدول العربية (ص 219).
وفي تطرّقها إلى العلاقة بين الإعلام والديمقراطية (ص227) شدّدت على جدلية هذه العلاقة، ملاحظة أنّ " الطريق إلى الديمقراطية بطيء" وأنّ الديمقراطية "لا تتحقّق بمجرّد انهيار الأنظمة الدكتاتورية أو تنظيم أوّل انتخابات حرّة وشفّافة أو وصول سلطة منتخبة إلى الحكم". ونبّهت إلى أنّ الإعلام قد يتحوّل إلى "خطر على الديمقراطية الوليدة عندما ينزلق في ما تدفعه إليه الأحزاب المتناحرة ليكون منبرا للتحريض على الأحقاد وتأجيج الفتن والانقسامات والدفع إلى هدم المجتمعات بدل البناء وتكريس ثقافة الحوار" (ص 230).
في الختام اعتقد أنّه كان على الكاتبة أن توليٓ قدرا أكبر من الاهتمام لأحد المكوّنات الأساسية للمشهد الإعلامي وأعني القطاع السمعي البصري لا سيّما في شقّه العمومي الذي بات في أوكد الحاجة إلى الإصلاح. كما أنّه كان بإمكانها التوسّع في تحليل تداعيات الثورة الاتصالية على المنتوج الإعلامي في جوانب عدّة منها بالخصوص البعد التكنولوجي وإشكالية صياغة الخطاب وشكله في علاقة بالمتلقي الذي أصبح منتجا للمادّة الإعلامية في ظلّ تعاظم مكانة شبكات التواصل الاجتماعي وانتشارالصحافة الالكترونية والتزاوج ببن السمعي والمرئي والمكتوب.
من الناحية المنهجية أرى أنّه كان من الأنسب تبويب فصول الكتاب بطريقة غير تلك التي بوّبت بها كأنْ يدرج الفصل الذي يحمل عنوان "لماذا الآن" والمخصّص لتوضيح الغاية من إنجاز هذا العمل في بداية المؤلَّف وليس في آخره وتجميع الفصول المتعلقّة بمسيرة دار الصباح في باب واحد وإفراد الفصول الخاصّة بتوصيف المشهد الإعلامي بعد الثورة بباب آخر لاجتناب تكرار أفكار ومعان ومعلومات وردت في أكثر من موضع في الكتاب.
غير أنّ هذه الملاحظات لا تنقص من قيمة العمل الذي صيغ بأسلوب سلسل جعل الأفكار والخواطر تنساب وتتدفّق بغزارة ويسر في غير تكلّف، كما صيغ بلغة سماتها جزالة اللفظ ودقّة التعبير وصدق النبرة في البوح بالوجع والألم كأنّ الكتابة صارت ضربا من الكاترسيس (catharsis) للتنفيس عن مشاعر الضيق والكدر نتيجة ما آلت إليه أوضاع الإعلام من تردّ وانحدار وفي الآن نفسه مثّلت الكتابة شكلا من أشكال الدفاع عن حقّ دار الصباح في البقاء.
بهذا الكتاب القيّم أطلقت آسيا العتروس صيحة فزع لإنقاذ قطاع الإعلام في تونس اليوم ووجِّهت الدعوة إلى المسؤولين والمهنيين وممثّليهم النقابيين للمبادرة بالإسراع بإصلاحه حتّى ينهض بدوره على الوجه الأفضل ويكون بحقّ السلطة الرابعة.
عبد الحفيظ الهرقام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.