في مسرحية "مدام م" لآسيا الجعايبي، لم يكن الجدار الذي يفصل الركح عن مقاعد الجمهور في قاعة الفن الرابع بالعاصمة وهميّا كما دأب على ذلك جمهور المسرح، بل كان هناك جدار حقيقيّ من الخشب يفصل الركح عن القاعة، مما أثار في الجمهور الحيرة وفضول المعرفة والتساؤل عن طريقة مشاهدة الممثلين وهم بصدد اللعب الدرامي على الركح. تنطفئ الأنوار داخل القاعة ويعمّ الظلام، ما عدا شاشة ساطعة على الجدار الفاصل بين الركح والقاعة مخصّصة للترجمة، وصوت متكلّم يذكّر الحاضرين بآداب الفرجة داخل القاعة من إغلاق للهاتف المحمول وعدم التشويش وغيرها، ثمّ يُتابع المتكلّم تقديم العمل والشخصيّات دون البوح بأسرارها، قبل أن يفاجئ الجميع بدعوتهم للصعود على الركح بعد فتح منفذ لهم تمّ إحداثه للغرض، لتكون المفاجأة بتخصيص مقاعد فوق الركح تحيط بركح على الركح من ثلاث زوايا. وعلى هذا الركح الصغير شخصيات مسرحية "مدام م" تبتسم، وهي تجلس إلى طاولة عليها قالب من الحلوى، ويقدم أدوار هذه الشخصيات الممثلة جليلة بكار ومنى بن الحاج زكري ومعين مومني وإيمان غزواني وحمزة الورتتاني. وتولّى إخراج العمل آسية الجعايبي وإنتاجه شركة "فاميليا للإنتاج"، وقد تمّ تقديم هذا العرض مساء الجمعة بقاعة الفن الرابع بالعاصمة ضمن سلسلة عروض تستمّر مساء اليوم السبت 2 مارس والأحد 3 مارس بالفضاء نفسه. تدور أحداث مسرحية "مدام م" حول أسرة تتكون من أم أرملة و5 أبناء، تبدو الأسرة سعيدة، أفرادها منسجمون، إلى أن ظهرت "هاجر" وهي صحفية في موقع إعلامي الكتروني، نشرت مقالا "كاذبا" عن تورط هذه الأسرة في انتشار الجرذان في الحي مما نتج عنه وفاة أحد الأبناء وتشتيت أفراد الأسرة. و"مدام م" هو الاسم المختصر للأم "مدام مليكة" والملاحظ أيضا أن أسماء أبنائها تبدأ بحرف الميم وهم "منى" و"مراد" و"مهدي" و"مينا" و"موسى". وهذه المسرحية هي العمل المتكامل الأول لآسية الجعايبي خريجة جامعة السوربون الفرنسية في اختصاص مسرح الشارع. ولعل التخصّص في مسرح الشارع هو ما جعلها تُخرج عملها بتصور ركحي ودرامي مغاير للمألوف، مستندة إلى نظرية المسرحي الألماني "برتولت برشت". فالعمل ارتكز من حيث الشكل على كسر الجدار الرابع أو الجدار الوهمي بين الركح والجمهور، والمفاجأة في العرض أن الممثلين لم ينزلوا من الركح إلى القاعة، بل إن ما حدث هو العكس، حيث صعد الجمهور على الركح، وتحول الفضاء إلى "مسرح جيب" من أهم خصوصياته أن العرض لم يعد يُشاهد من زاوية واحدة بل من أكثر من زاوية (ثلاث زوايا)، وبذلك أضحى الجمهور جزءا من العرض لا مستهلكا سلبيا له. وتجاوزت المخرجة عقبة مشاهدة الجمهور للعرض من نفس الزاوية، بإحدث ركح متحرك في اتجاه دائري، فكان العرض أشبه بنقل سينمائي للفعل المسرحي من أكثر من زاوية. والتقنية الأخرى المستوحاة من النظرية البرشتية هي اللعب الدرامي للممثلين على الركح، وأدائهم وظائف أخرى كتغيير الديكور وتحريك الركح وتغيير الملابس أمام أنظار الجمهور، وفي ذلك إشارة مباشرة للمخرجة بأن ما يقدم على الركح لا يخرج من إطار التمثيل. يُلاحظ في مسرحية "مدام م" كثافة السرد، فكأنما العرض شبيه بعرض الحكواتي في الموروث التقليدي، وتجلى ذلك في حضور صوت الراوي الذي ساهم في نقل الأحداث والترفيع من نسق العرض وتعبئة الفراغ الركحي الحاصل عند تغيير الديكور والملابس. تنطلق أحداث المسرحية بمقارنة ضمنية بين واقع الصحفي قبل الثورة وبعدها. وتمّت الإشارة إلى ذلك بحديث الصحفية عن نفسها بالقول "أنا هكة" (مرتدية ملابس فخمة) و"قبل 8 سنين كنت هكة" مشيرة إلى الحقوق والحريات المسلوبة والقمع الذي يتعرض له الصحفيون. وينتقد العمل بشدة الصحفيين الذين يبحثون عن السبق الإعلامي قبل التحري في مصداقية المعلومة، وتسابقهم في نشر الإشاعات والأخبار الزائفة وعدم الاهتمام بالحقيقة، فالعمل الصحفي، كما ورد في أحداث المسرحية، أصبحت تحكمه المادة وأصبح خاضعا لسلطة رأس المال، والصحفي "بودورو" كما تم وصفه، هو الذي ساهم في انهيار القيم المجتمعية وتقسيم المواطنين عوض الاهتمام بقضاياهم الرئيسية وهي التنمية والعدالة الاجتماعية وحرية المرأة والفكر. لذلك وضعت المخرجة الصحفي محل محاكمة واستنطاق، فأشارت إلى الصحفية "هاجر" الغائبة ركحيا والحاضرة بقوة في الأحداث من خلال كرسي أحمر اللون، وفي ذلك مقاصد عديدة منها رمزية الكرسي إلى السلطة ورمزية اللون الأحمر إلى الخطر وحالة الطوارئ. خطر الإعلام "بودورو" تعلق بتعميق الصراع بين أفراد أسرة "مدام" وتشتيتها، وتجلت مظاهره أيضا في إيقاع العرض الذي أخذ منحًى تصاعديّا، فكلما ذُكز اسم هاجر زادت الأوضاع تعقيدا وبلغ الصراع أوجه. وهذا ما برز بقوة في اللعب الدرامي للممثلين: إذ كلما أطلق الممثلون أو أحدهم شعر رأسه الطويل ليصبح ملبدا ومتشابكا وأشعث، كلما ارتفع إيقاع العرض وتعمق الصراع واحتدت الأزمة. والشعر الأشعث في الصورة هو للدلالة على البعثرة والفوضى. ترجمت المخرجة أيضا الصراع الدائر بين أفراد الأسرة والصحفية هاجر في تحريك الركح بشكل دائري، خاصة أثناء لقاء الصحفية بمراد صاحب محل لبيع المصوغ وإيهامه بحبها له. فكانت الحركة الدائرية للركح أشبه بزلزال يضرب المكان، كما كانت حركة الدوران عكس عقارب الساعة وكأنها عودة بالزمن إلى الوراء. والمقصد من ذلك هو أن الإعلام يسير بالبلاد إلى الوراء عوضا عن الأمام أي تعميق الأزمة عوض البحث عن الحلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. لم يخل العرض طيلة 90 دقيقة من المفاجآت، فقد كان الجمهور يعتقد أن استقرار العائلة وتماسكها سيعود بعد التخلص من الصحفية، إلا أن ما حدث هو ظهور الصراع من الخفاء إلى العلن بين "مدام م" وأبنائها من ناحية وبين الأبناء فيما بينهم من ناحية أخرى. وتبين أن ما يجمع الأبناء ليس الأم بل قالب حلوى عيد ميلاد الأم، حيث يجلس الجميع لاقتسام الحلوى أي اقتسام السلطة وتقسيم البلاد، وهذه إشارة أخرى انتهت عليها أحداث المسرحية، وهي أن الإعلام ليس وحده المتسبب في الأزمة بل الطبقة السياسية أيضا.