أطوار من "عصر بورقيبة"، ذلك ما تختزنه دفتي كتاب "مع بورقيبة.. ذكريات صحفي في قصر قرطاج" والذي أدرج فيه كاتبه عديد الجوانب من حياة "المجاهد الأكبر" طوال عمله كصحفي مراسل في قصر قرطاج. أبرز كاتب هذا الكتاب، الصحفي محمد المهدي حطاب، فصولا من حياة الحبيب بورقيبة في قصر قرطاج، حول هواياته، وحبه للشعر والصحافة نرجسيته الكبيرة، وأبرز خاصة تلك الصورة "الماكيفيالية" لبورقيبة وطرق إدارته "البراغماتية" للدولة وعلاقاتها الخارجية، وكيف أنه نجح في إحراج أقوى رؤساء العالم عند زيارته لأمريكا سنة 1984. فعلى الرغم من مرضه وعدم قدرته على الوقوف بسبب تقدمه في السن، أحرج بورقيبة الرئيس الأمريكي، بعد أن سأله في شكل استنكاري حول عدم تكلمه في الندوة الصحفية التي تلت المشاورات الثنائية في البيت الأبيض-والتي تناول فيها بورقيبة مطامع القذافي في تونس- عن عدم حديثه حول "ما وعده به الرئيس الأمريكي في خصوص ليبيا" مما شكل حرجا لريغان امام الصحافيين، بسبب تلك الصراحة الكبيرة التي لم يعهدها الرؤساء الأمريكيون من الزعماء العرب. الكتاب يعطي مثالا آخر حول الصراحة البورقيبية خاصة بعد الاعتداء الإسرائيلي على حمام الشط وكيف قال للسفير الأمريكي أن أمريكا اذا استعملت حق النقض الفيتو في القرار الذي سيصدره مجلس الأمن حول الحادثة فإنه سيقطع العلاقات مع الولاياتالمتحدة، وكيف أن أمريكا امتنعت عن التصويت وليمرر القرار ضد إسرائيل، وهو من القرارات القليلة ضدها في هذا المنتظم الأممي. الكتاب يختزل فيه الكاتب كثيرا من الأمثلة حول "الصراحة البورقيبية"، والتي قد تصل إلى حالة من حالات الانفعال التي يصبح فيها بورقيبة "يشتم ويلطم". من تلك الأمثلة، قصة صاحب معمل أطرد امرأتين تعسفيا، نشرتها صحيفة لوتون وكيف أن منحة الطرد التي أصدرها القاضي كانت زهيدة مما جعل المرأتين تشعران بالحزن. بورقيبة دعا صاحب المعمل واستقبله باللطم والسب بأقذر النعوت من الصنيع الذي أقدم عليه محملا إياه وغيره مسؤولية ما قال أنه "استقواء الاتحاد العام التونسي للشغل عليه"، أما صاحب المعمل فقد أصيب بالسكري. بين طيات هذا الكتاب يخبرنا الكاتب بتلك الجوانب التي جاءت ببن علي للسلطة وكيف كان بورقيبة عند مرضه ب"الخرف" قد أصبح يعيين المناصب في يوم ومن الغد يرجع في تعييناته، وما تسببت فيه ابنة اخته سعيدة ساسي في الانفصال عن زوجته التي أحبها كثيرا وهي وسيلة بن عمار. الكتاب في طابعه السردي، الذي يشبه إلى حد ما في طريقة كتابته أدب المذكرات، أبرز من خلاله الكاتب "شجاعة" بورقيبة، حيث رفض التحول من مدينة نفطة في الجنوب التونسي بعد علمه بهجوم مدينة قفصة القريبة من محل إقامته، إلى أن يخمد التمرد الذي دعمه العقيد الليبي معمر القذافي. "الماكيافلية البورقيبية" برزت كذلك في تمكنه من انهاء "انتفاضة الخبز" سنة 1984 بعد أن أرجع أسعار الخبز في خطاب قصير توجه به إلى الشعب، فاستطاع بكلمات بسيطة من اخماد "ثورة كبيرة" طالت كامل البلاد، فأصبح بورقيبة بطلا وصب الشعب كامل سخطهم على الوزير الأول، محمد المزالي. الكاتب جاء كذلك على إعجاب بورقيبة بالصحافة واهتمامه بها، وكذلك على حبه للشعر وللأدب الفرنسي الذي كان يحفظ بعض منه عن ظهر قلب، وباللغة العربية، وكيف كان يلوم كبار مسؤولي حكومته حول عدم اتقانهم لها في خطاباتهم، ورؤيته للدين وكيف أنه كان يرى نفسه "مبعوثا إلاهيا" لإنقاذ تونس. كل هذه الحكايات أتى عليها الكاتب الصحفي محمد المهدي حطاب، وفي أقل من 100 صفحة من الحجم المتوسط، استطاع من خلالها بسط ثمار تجربته المعاصرة للرئيس التونسي الأسبق وليكون شاهد على السنوات الأخيرة من "عصر بورقيبة".