التطوّع لغة –في لسان العرب لابن منظور- من تطوّع. تطوّع المرء: ما تبرّع به من ذات نفسه ممّا لا يلزمه فرضه. والمتطوّع إذن هو الذي يفعل شيئا تبرّعا من نفسه، ويقال تطاع للأمر وتطوّع به وتطوّعه: أي تكلّف استطاعته. يقول الحق في سورة البقرة: فمن تطوّع خيرا فهو خير له". المطوّعون وأصله المتطوّعون إذ أنّ التاء أدغمت في الطاء، " والذين يلمزون المطّوّعين من المؤمنين". أمّا في اللسان الأجنبي وبالتحديد في اللغة الفرنسية فالمدلول المقابل يتضمّن علاوة على ما سبق معنى إرادة الخير: Volontariat dans Larousse : « participante un volontaire à une action, à une mission Bénévolat وأصلها في اللاتينية Benevolus أي إرادة الخير. إذن نستشف ممّا سبق أنّ التطوّع إنّما هو فعل إرادي ينبع من ذات النفس تدفعه رغبة في المساهمة في عمل ما أو مهمّة ما عن طواعية ودون إلزام. التطوّع دائما فعل شيء مقابل لا شيء. لا شيء مادي بالطبع لا لشيء إلا إرضاءًا للنفس الأمّارة بالخير. والتطوّع إرادة في مساهمة في تعبير عن الذات وإصباغ معنى للحياة. ومن مرامي التطوّع التضحية من أجل الآخرين ولإسعاد الآخرين، ونصرة البشر ، وحماية الكائنات والقائمة تطول. ولعلّ القرّاء يستحضرون الكثير منها انطلاقا من سيرهم الذاتية أو من قراءاتهم أو من مشاهداتهم. وكلها تنصهر ضمن تطلعات الشباب نحو الفضيلة. يقول أبو نصر الفارابي في كتابه " السياسة المدنية " الذي ألفه سنة 942 م: " إنّ أفعال المدينة الفاضلة مسدّدة نحو السعادة " ويضيف: " إنّ السعادة هي الخير على الإطلاق". والشباب كما علّمتني الحياة هو أفضل فترات العمر للانطلاق نحو العلا والتحفّز للرفعة والتطلّع إلى ... ما وراء العرش ... إنّه الطموح وهل غير الشباب يكون أهله وهو الذي تعجّ بقلبه الدماء وتضخّ بصدره رياح أخر. لقد أنشد الشابي في " إرادة الحياة " وهو في عزّ الشباب ومات وهو في عزّ الشباب. إذا ما طمحت إلى غاية
ركبت المنى، ونسيت الحذَرْ ولم أتجنّب وعور الشعاب ولا كبّة اللهب المُستعِرْ ومن لا يحبّ صعود الجبال يعش أبد الدّهر بين الحُفَرْ كذا صاغ الله الإنسان بمكوناته التي رتّبها أبو حيان التوحيدي في كتابه " الإمتاع والمؤانسة " الفطرة ثمّ الفكرة ثمّ العقل " وأضيف الفعل. الفعل خلاّق أو لا يكون الفعل يتجاوز العقبات كلّنا نتذكّر تصميم غيلان في رواية "السد" للمسعدي: " الإرادة الحقيقية الواقعة وجميع العقبات لا تحول دون الممكن يا ميمونة. لأتمّمَنّ السدّ". لو تفسحنا في ذاكرتنا الوطنية لوقفنا على عدد هائل من المنارات المضيئة في تاريخ شعبنا، فإرثنا الجماعي ثريّ بما أفرزته أجيال الشباب المتعاقبة فوق هذه الأرض الطيّبة وما خطّته سواعدهم الفتيّة. ولو اقتصرنا على القرنين التاسع عشر والعشرين لتراءت لنا التركة التنويرية ابتداء من البشير صفر من خلال نشاط أولى الجمعيّات الثقافية في بلادنا والتي سمّاها مؤسسها بالخلدونية تأسّيا بتعاليم أعظم مفكر عرفته منطقتنا على مرّ التاريخ وهو التونسي مولدا ونشأة وتعلّما عبد الرحمان بن خلدون صاحب الأثر الخالد " كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيّام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". وهو القائل في مقدّمة هذا التأليف: " إنّ النوع الإنساني لا يتمّ وجوده إلا بالتعاون". وهذا فعلا ما اهتدت إليه جمعية الخلدونية وانطلقت في جلب المطّوعين لإسداء جليل الخدمات لجمهور التلامذة والطلبة. وهو ما اقتفت أثره مجموعة الشبان التونسيين بزعامة علي باش حانبه الذي هبّ بمعيّة ثلّة من أترابه الخلّص لتأسيس جمعية قدماء تلامذة الصادقية يوم 24 ديسمبر 1905، هذه المدرسة النموذجيّة التي أسّسها رجل مصلح أحبّ البلاد كما لم يحبّها أحد وهو القادم إليها صبيّا من بلاد اليونان وقد قدّمت هاته الجمعية وما تزال أفواج المتخرجين والمترسمين في كنف التطوّع والعطاء اللامشروط من الدعم التربوي والزاد الثقافي ما لا يستطيع حصره إلا الراسخون في علم التوثيق. وفي منتصف القرن عند اشتداد الحراك الوطني من أجل التحرّر من ربقة المستعمر المستتر بالحماية المفروضة على البلاد منذ الثاني عشر من ماي 1881 وفي خضمّ المعركة الحامية بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة أطلق الشعب صيحته التي يردّدها إلى الأبد رجالا البلاد وشبّانها نموت نموت ويحي الوطن فنشأة الحركة الكشفية على يدي الإنقليزي بادن باول سنة 1907 وما تبعها في بلادنا من تأسيس للكشافة التونسية على يد المنجي بالي، هذه النشأة وتلك وغيرها في المعمورة كلّها كرّست مدلول التطوّع وأردفته بقيمة أخرى هي الاعتماد على الذات. وفي نفس السياق تأسست منذ أكثر من قرن منظمة الصليب الأحمر على يدي رجال أفذاذ آمنوا بمبدأ التضامن البشري ومن بينهم رجل مرّ من بلادنا وأقام بها مدّة كافية لإعداد مؤلف ب237 صفحة حسب طبعة الشركة التونسية للتوزيع سنة 1975 تحت عنوان " الإيالة التونسية أو La régence de Tunis وهو السويسري Henri Dunant. ويواصل الهلال الأحمر التونسي منذ أكثر من نصف قرن مسيرته الإسعافية بفضل تفاني رجالات أخلصوا للوطن وللإنسانية ومن ضمنهم يشرّفني أن أذكر الرئيس الراحل للجمعية الحكيم إبراهيم الغربي (1920-2018) ذي الأيادي البيضاء في حقل الطب والتعليم والحياة العامّة وما الجائزة الكبرى للمنظمة العالمية للصحة إلاّ عربون ثناء للرجل الذي أفنى عمره في خدمة المجموعة. هنالك تنظيمات أخرى بعثت في بلادنا في مجال التطوّع. فحقيق بنا أن نشير بالبنان لحركة الغرفة الفتية التي اكتسبت منذ أكثر من خمسين عاما من التجربة حتى اشتدّ عودها وأضحت قادرة على إيواء أحد المؤتمرات للغرفة الدولية بعدما تمكّن أحد أفرادها البارزين من تبوّء المسؤولية الأولى فيها خلال سنة 1986 – وأعني به الأستاذ المنصف الباروني) وإن أنسى فلن أنسى الجمعية التونسية للعمل التطوّعي والتي دأبت منذ عقود على تنظيم حضائر وطنية ودولية في مجالات عدّة: بيئية – صيانة معالم – ترميم ...إلخ. وفي هذا الصدد يجدر بنا أن نستحضر تلك الحضرة العالمية التي دعا إليها الاتحاد العام لطلبة تونس سنة 1958 لإعادة بناء مدرسة الساقية بعد تدميرها يوم 08 فيفري من تلك السنة من طرف الطائرات الفرنسية المطاردة لمقاومة الجزائريين. وقد هبّ الطلبة من بلدان صديقة وشقيقة وأعيد البناء مرّة أخرى. يقول الحق في محكم تنزيله: " فمن تطوّع خيرا فإنّ الله شاكر عليم " البقرة- الآية 158. لقد تعمّدت سرد هاته الأطر التي تمرّست داخلها جميعا وأدركت بكلّ حواسي معاني التطوّع والعطاء والبذل من أجل الغير والاعتماد على الذّات.