لواعتمدنا على الأرقام الرسمية فان البلاد تعيش أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة وهذا أمر معروف للجميع ولا يتطلب خبراء لفهمه لكن لو تعاملنا مع الأمر بمنطق الواقع المشاهد فان ما نراه ونرصده خلاف هذا على الاقل ما يشمل نسبة من التونسيين بمعنى أن الحركة الاقتصادية موجودة والإنفاق مقبول وهذا يمكن رصده كما قلنا في جانبين الأول أن نمط ومستوى الاستهلاك مرتفع والثاني أن التجارة الموازية والتهريب هو مجال مزدهر جدا . الأمر يمكن تفسيره بأننا اليوم في تونس نعيش واقعين الأول واقع الناس العادية أي الموظفين والعملة وهؤلاء تأثروا كثيرا بالأزمة الاقتصادية. والثاني واقع آخر يمكن أن نصفه بكونه واقع خفي وغامض مرتبط بالتجارة والنشاط الموازي أي غير الرسمي وهو ما يطلق عليه الاقتصاد العميق وهو اقتصاد أسود . هذا الاقتصاد خلق طبقة جديدة لا يمكن حصرها بأرقام المعهد الوطني للإحصاء او البنك المركزي لأنها طبقة خارجة عن كل التقييمات باعتبار أنها تنشط في الخفاء وبر قيود أو وثائق ولا حسابات بنكية ولا شيكات بل أن تعاملاتها كلها تتم عبر السيولة ةالتفاقات الشفاهية . النتيجة الأخرى لهذا الاقتصاد العميق هو "خلق" طبقة أثرياء جدد يمكن تسميتهم بأثرياء ما بعد الثورة وأغلبهم إما أنهم كانوا تجارا صغارا وفجأة صاروا كبارا بعد أن ضربت الثورة أباطرة التهريب والتجارة الموازية الذين كانوا مدعومين ومسنودين من السلطة ونقصد هنا الطرابلسية والمقربين منهم وعائلة الرئيس السابق أو أنهم أشخاص استفادوا من الأزمة الحاصلة في ليبيا وربطوا "خيوطا" وتحولوا فجأة إلى أصحاب شركات أو مؤسسات للتصدير . لكن الحديث عن التجارة الموازية لا يجب ان يحصر في التهريب فقط بل وأيضا النشاط غير الرسمي ّ. وفق تقرير للبنك الدولي فان التجارة الموازية صارت تستحوذ على 54بالمائة من قيمة الاقتصاد الرسمي ما يعني أنها لم تترك له إلا 46بالمائة مع ما يتبع هذا من استحواذ أو حرمان خزينة الدولة من نصف مواردها الجبائية . بما أن أي اقتصاد لا بد له من نظام مالي خاص فان التجارة الموازية لم تهمل هذا الأمر حيث أنشأت لنفسها نظاما يمكن وصفه بالمحكم والضخم وهو للأسف معلن وليس خفيا فاليوم نرى أن "دكاكين" الصرافة منتشرة في المناطق الحدودية جهارا نهارا تبيع وتشتري العملات بمختلف أنواعها إضافة إلى ما يمكن أن نطلق عليه فروعا صغيرة في مناطق معينة في داخل الجمهورية فما نراه مثلا في باب البحر أو نهج باب الجزيرة في تونس العاصمة هو نشاط مصرفي مواز كونه سري وخفي لكنه في الحقيقة معلن بل أكثر من معلن فالناشطون فيه إن كانوا من التونسيين أو غير التونسيين يقومون بالإعلان عن نشاطهم. عندما نعاين الوضع العام بالبلاد نجد أن هناك طبقات مهمشة وتعيش ظروفا اجتماعية صعبة جدا لكن في المقابل هناك طبقات أخرى نظريا ليس لها وظائف لكن عمليا هي تنشط في التجارة لكن أي نوع من التجارة ؟هنا الإشكال. فالوضع في ليبيا الذي يتسم بالهشاشة وانعدام سيطرة الدولة وفتح الحدود وسيطرة الميليشيات على المسالك وحتى بعض المعابر كل هذا خلق نشاطا يمكن ن نطلق عليه اقتصاد ما بعد الثورة وهو الاتجار في كل شيء بلا ضوابط وقوانين رسمية لكن في المقابل فان هذا النشاط خلق لنفسه قوانين خاصة . هذه التجارة هي بينية بالأساس أي أنها سلع تمر من والى لبيبا وكذلك الجزائر وتدر على أصحابها أرباحا مهولة . النتيجة الأخرى التي حصلت هي أن تزايد المال المتراكم خارج البنوك والمسالك القانونية يؤدي إلى السعي لتبييضه حتى يصبح قانونيا وهو عالم آخرتسيطر عليه شخصيات في الظل غير معروفة و لم تنجح الدولة بعد في ضربه.