إن بداية سنة سياسية وبرلمانية عادة تكون تبشر بخير، وتتسم بنظرة واقعية الى الحاضر، و منها الى التنبؤ بمستقبل مشرق، يدفع الى التفاؤل، وإلى العمل المثمر، وتكون الحصيلة ايجابية، ببعث الثقة في النفوس، وكبت جماح المطلبية، فيسود إذ ذاك الاخاء بين مختلف مكونات الشعب، لمعرفتهم حقيقة وضعهم، والشعور ببناء مستقبلهم المشترك بأيديهم، والنهوض ببلادهم الى الافضل، وحمايتها من المتطفلين على السياسة، ومن بائعي الاوهام ومسيريهم، حريصون على استقلال قرارهم، وحرية مؤسساتهم، ودعم مسارهم، أكثر فأكثر، تحت رقابة نقدية متواصلة من البرلمان، لعمل حكوماتهم، للدفع بها الى الامام، وحمايتها من شر الإنزلاق في درب المهاترات، والمجازفات بأموال شعبهم، أو تحت وطأة الاقتراض، لدى مؤسسات مالية دولية، غايتها الربح لا غير، بدون شرط ولا قيد. تلك هي بعجالة، ملامح السنة السياسية في الدول الديمقراطية، التي يحكمها العدل، وتتصارع فيها الآراء بالحجة والبرهان، والتي تراهن على الوقاية خير من العلاج، فأين بلادنا في كل هذا الخضم؟ هل نحن نسير في طريق إنفراج الازمة، التي طال امدها، وأتت على الاخضر واليابس في بلادنا؟ هل مسيرتنا نحو الغد الأفضل أصبحت من مجال الخيال والحلم؟ هل مرض التصارع على كرسي الحكم الذي وصل الى أبعد حدوده، له نهاية في القريب العاجل؟ هل الثورة الذي أنجزها الشعب دون أحزاب او منظمات او جمعيات تُذكر، انتهت بمرور الزمن، واستولى على مسارها من ليس من أهلها؟ هل انتهى عهد الغنائم؟ وهل سيأتي يوم المحاسبة من أين لك هذا، بكل تجرد وشفافية؟ هي اسئلة نطرحها من جديد وكتاباتنا تدل وتشهد على ذلك منذ لحظة الثورة، لكن لم نجد الآذان الصاغية، ولا حتى النقد في ما قدمناه من حلول نعتبرها مجدية، نتيجة تجربتنا، وتضحيتنا، وولاؤنا لتونس، ولمن أحب تونس، ودافع مستميتا عن كيانها، وكرس حياته لخدمتها، وأخذ نصيبه في بناء دولة مدنية، عصرية، يسودها العدل، وقوامها التفتح على الخارج، ومسايرة العصر وثورته الرقمية، وبذلك تتطلع الى اسمى الرقي والازدهار، في كنف وحدة متعددة الاطراف ومتنوعة المصادر، غايتها البناء والتشييد، تعمل على اكتمال مشروع الثورة، التي شهد لها العالم بتأثيرها الايجابي وتحديها للأيديولوجيات التي أكل عليها الدهر وشرب، والتي أفرزت في بلادنا مثلا، دكتاتورية طال عمرها، مكنت أهلها وحواشيها، من الحكم المطلق، والثراء الفاحش، وهي السبب في ما نعيشه اليوم من ضبابية في الرؤى، ومن تدهور في الاخلاق، ومن خلافات سطحية بعيدة كل البعد على مشاغل الناس، وما نعانيه من غلاء المعيشة، وفقدان المصداقية، وكل المؤشرات تدل على وضعنا البائس، وكلنا نتمنى المهدي، المنقذ المنتظر! وقد تناسى بعضهم، لغيابهم عن الساحة السياسية، اذ كانوا في بحبوحة العيش، تحت غطاء جنسيتهم الثانية، الملحمة البورقيبية، وان اتصف النصف الاول من السبعينات التي كنا من روادها، بتحقيق العديد من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية، بفضل سياسة التعاقد الاجتماعي، شاركت في صياغتها كل القوى الحية في البلاد، وكل المنظمات من اتحاد الشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، واتحاد القومي للفلاحين، وكان الحزب الاشتراكي الدستوري من مؤيديها، وجه منخرطيه لبنائها، والذود عنها، وابلاغها الى الشعب باسره اتفقت كل الاطراف في تلك الفترة، بالعمل على تحقيق التنمية، التي رسمت في المخطط الرابع الذي يرمي الى تحسين مستوى العيش، والتوزيع العادل للثروات، وجعل الحوار منهجا لبلوغ الاهداف، مراعاة مع المصلحة الوطنية، وكان الحزب الاشتراكي الدستوري، بإدارة المرحوم محمد الصياح، يعمل جاهدا في الدفاع عن الاتفاق المبرم، مجهزا ادارته للقيام بالواجب، والذود على فحواه. فكانت اللقاءات، والمنابر الحرة، وفتحت الصحافة الحزبية، بأصنافها، للدفاع عن العقد المبرم، والعمل على بيان مزاياه، في رقي البلاد، وازدهارها مما ادى الى تدعيم الوحدة القومية التي تجلت حوله، ويمكن التوقف والبحث والتدقيق في هذه المرحلة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية من أهل الذكر، وخاصة المؤرخون لإبراز محاسنها ومساويها، ومن الجدير بالتذكير ان كل الاجيال ساهمت بقسطها في بناء البلاد، وكل من وجهة نظره، ادى الواجب في المسؤوليات التي تحملها، وللمؤرخين النزهاء الحكم الموثق على كيفية أداء المسؤوليات ووضع الاحداث في مسارها الصحيح، حتى يتيسر لكل تونسي ان يطلع على تاريخ بلاده المعاصر، ويقارن بين الامس واليوم، وفي هذا الباب وجب التنويه بتصريح وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي خلال حضوره يوم 4 سبتمبر، تأبين شهيدي المؤسسة العسكرية بمرتفعات اشعانبي۔ رحم الله الفقيدين رحمة واسعة ورزق اهلهما وذويهما جميل الصبر والسلوان۔ "حمّل الوزير القوى السياسية في تونس مسؤولية تردي الاوضاع الامنية والاجتماعية في البلاد وأضاف أن التجاذبات السياسية والانخرام السياسي الموجود في تونس منذ سبع سنوات، هي السبب وراء كلّ الازمات الاقتصادية والاجتماعية والمشاكل التي عرفتها تونس بما فيها الانخرامات "الاهتزازات الامنية" في البلاد وأكد أن "الانخرامات السياسية تسببت في هشاشة الوضع أمنيا واقتصاديا واجتماعيا، وانه ظهر بوضوح اليوم ان تحسن الوضع الامني ضروري للنمو الاقتصادي والاستقرار " وأضاف الزبيدي "حسب اعتقادي إن السياسيين الذين يدعون أنهم يمثلون الشعب وأن الشعب انتخبهم وأتى بهم، أريد ان أذكرهم انه سيأتي يوم ويحاسبهم الشعب عن كل ما حدث في البلاد طيلة الفترة التي أعطاهم فيها الثقة ليمثلوه "والزبيدي كما أعرفه يرفض أن يكون مثقف البرج العالي، ومثقف الصالونات والاماكن النخبوية وانما هو منخرط في هموم أمته ووطنه، ومنسجم مع محيطه، ومندمج فيه، لذلك يجب التمعن في ملاحظاته، والأخذ بنقده، وما نتائج المسح الذي انتجه المعهد الوطني للإحصاء حول "نظرة المواطن إلى الأمن والحرّيات والحوكمة المحلية" نهاية 2017، بعد ما كان انجز بحثه الميداني الاول، نهاية 2014،لدليل على وجهة نظره والمسح يرمي من وراء دراسته، انتاج مؤشرات حول عدد من الميادين التي لها اتصال بالمشاركة في الميدان السياسي، ومن البديهي معرفة ما وصل اليه من استنتاجات، ومقارنتها بالمسح الاول، نظرا لما ورد في المسح، اخترت من الجداول ما اعتبرته جديرا أن يكون ركيزة منوال تفكير، يمكن من خلاله ايجاد حلول على المدى القصير، وأخرى على المدى الطويل، لمشاغل المواطنين ويكون ذلك من الاوليات في برامج الاحزاب، وفي مخطط انمائي يمكن الالتفاف حوله، يرجع اليه بالنظر في اعداد الميزانيات المقبلة للدولة، حتى يقبل المواطن على المشاركة، ويمد يد المساعدة لإنجاز مطامحه العاجلة والآجلة، ومن البديهي اولا استعراض ما تحمله بعض الجداول من معلومات جديرة بالانتباه والمعالجة، في اقرب الظروف، ومن المؤسف ان هذه الدراسة الجديرة بالعناية، لان ركائزها تستجيب للقواعد العلمية الجاري بها العمل في البلدان المتقدمة، لم تأخذ العناية التي تستحقها من اهل الحكم، ولم تشر اليها الصحافة بأنواعها في صفحاتها، وحتى صفحات الفيس بوك، لم تهتم بها لمناقشتها والخوض في نتائجها، واهتمت الدراسة كالتي سبقتها بنفس المواضيع اخترت منها ما لاح لي ايجابي لمعرفته، واستخلاص العبر منه، وللمزيد من المعرفة وجب الرجوع الى الاصل، وهو مدون في كتيب أصدره المعهد الوطني للإحصاء "المسح الوطني حول نظرة المواطن إلى الأمن والحرّيات و الحوكمة المحلية"، نهاية 2017 وقع نشره في جوان 2018. إن نسبة الذين صرحوا بانهم لم يكونوا ناشطين في الحياة السياسية عرفت ارتفاعا طفيفا بالنسبة لمسح 2014 والسؤال المطروح كيف يمكن التصدي لهذا العزوف وما هو دور الدولة؟ ان الوضع خطير انجر عنه عدم المشاركة في الانتخابات الاخيرة، ويتجلى بوضوح انه لاوجود لبرامج استقطاب تحث على النشاط المدني الذي يجب على الدولة إدخاله في ميدان التربية بمراحلها، ويمكن في هذا الصدد تكوين فرق تجوب المدارس، وتحث على المشاركة الفعالة، وتبين مزاياها في تنمية الحي او القرية او الجهة في اطار التنمية المستدامة... تبين الدراسة أيضا ان الشباب من الفئة العمرية 29-18 سنة ينشط ب47٪ في نوادي رياضية، وقرابة 30 ٪ في جمعية، وما يناهز 19٪ في حزب سياسي، و6.5 ٪ في نقابة، وان قطاع الصحة ب 63 ٪ وقطاع الامن ب 52.3٪ في الطليعة من ناحية الفساد والرشوة بالنسبة لسنة 2017، يليهما قطاع التربية والتعليم ب 52.3٪ وقطاع الديوانة ب 46.7٪ ومقارنة بمسح 2014 بقيت دار لقمان على حالها في كل القطاعات، مع انخفاض في النشاط في الاحزاب، وتدهور بالنسبة للنقابات، والملاحظ ان المواطن عندما سؤل عن دور البلديات المنتخبة أخيرا، كان رده بدون تردد " لا يرجو تغييرا في اداء البلدية" مفسرا بذلك، عدم اقباله على مكاتب الاقتراع، بالكثافة المرجوة... بعد ثلاث سنوات لم تتغير النظرة لسير النظام الديمقراطي، وبقيت النسبة نفسها، أكثر من 7 مواطنين من جملة 10 غير راضين، ومنهم حوالي 4 أشخاص غير راضين بالمرة، والسؤال المطروح ما هو دور الحكومة والاحزاب والمنظمات والمجتمع المدني باسره وخاصة الصحافة المكتوبة والمرئية والالكترونية في هذه الوضعية الحرجة، التي تناولها بمنظاره الوزير الزبيدي وكيف يمكن تغييرها؟ والجواب لا يكون الا بتغيير اسلوب الحكم، وبالمثالية في السوك، وبالاتصال المباشر بالشعب، وبوضع خارطة طريق لمجابهة المصاعب، و تهدئة الخواطر، والاهتمام المتزايد بالجهات التي تشكوا نقصا في تنميتها، وخاصة الجنوب الشرقي و الوسط الغربي والشمال الشرقي كما تؤكده البيانات الموجودة في الدراسة التي أشرنا اليها… ولو كان المشرفون على مستقبلنا ذوي همم، لتنازلوا عن ما كلفهم به الشعب، وعادوا اليه، في اقرب وقت ممكن، حتى يقول كلمته فيما آلت اليه البلاد من تدهور، نتيجة سوء ادراكهم، وقلة معرفتهم، لدواليب الدولة وتسييرها، و"يحاسبهم كما يقول الزبيدي وتشاطره الاغلبية المطلقة في ذلك، عن كل ما حدث في البلاد طيلة الفترة التي أعطاهم فيها الثقة ليمثلوه"...