كنت مساء السبت 6 اكتوبر الجاري حاضرا بمدينة الثقافة بمناسبة الذكرى التي أقيمت للمرحوم محمد بن اسماعيل الذي توفي منذ ثلاثة أشهر ونظمتها عائلته بمشاركة معارفه ومحبيه الكثر. كانت مناسبة تليق بالمحتفى بذكراه الذي ترك في نفوس من عرفوه او اقتربوا منه حسرة ولوعة ظهرت في التدخلات المتنوعة التي حاول المتكلمون فيها التذكير بمناقبه واعماله وافكاره الرشيقة في الحياة العامة وخاصة ما كان منها في الاعلام والنشر والتوزيع الذي خصص له الجزء الأوفر من حياته الثرية بالإنجاز الذي لم يكن محدودا في ميدان واحد وظهرت نتائجه في التدخلات التي تفضل الخطباء من أصدقائه ومعارفه بالتذكير بها في الكلمات المكتوبة والمرتجلة أو في الشريط السينمائي الذي تم اعداه مخصوصا وعرض علينا بتلك المناسبة. كل ذلك تم استعراضه في تلك الأمسية الرائعة الجميلة التي حضرتها مع النخبة الفكرية والسياسية وقدماء الرياضيين ممن عاشوا معه زمن رئاسته للترجي الرياضي او لنادي كرة المضرب التي كان مغرما بها وكان له الفضل في اخرج تلك اللعبة من النطاق المحلي للعالمية وباتت تونس تحضرها وتشارك في مبارياتها وترتيب لاعبيها في مراكز متقدمة ومشرفة. ادار الحوار يومها باقتدار ملاحظ حفيده للابن يوسف الذي كان مفضلا عنده في حياته وكم حدثني عن تفوقه بإعجاب في دراسته بالولايات المتحدة او بفرنسا حتى رأته مساءها رؤية العين وكيف ادار ذلك الحوار باقتدار نادر هنأته عليه وكشفت له ذلك السر الذي لم يكن يعرفه سابقا وهو إعجاب جده المفرط بمسيرة حفيده التي كانت أمنيته التي تحققت وبات اطارا ساميا يسير على خطى جده ويتفانى في خدمة تونس بحب واقتدار. أعادت بي تلك المناسبة ذكرى سبعينات القرن الماضي لما كنت واليا على القيروان وفكرت في طبع كتاب يبرز معالم واثار القيروان ونفائسها بالألوان الطبيعية في طبعة أنيقة يعرفبها زوارها من عظماء الدنيا وكانوا وقتها يتعنون التحول اليها ويؤدون زيارات مجاملة لواليها الذي لا يجد ما يهديه لهم تذكارا مفيداولم يكن في تونس وقتها من يقدر على ذلك غير مؤسسة المرحوم الذي كنت اسمع بصاحبها دون اعرفه او ألاقيه فاتصلت به ذات يوم وحددنا موعدا كان من اختياره بنادي كرة المضرب(التنس)الذي دخلته لأول مرة اين وجدته في انتظاري وبعد محادثة أولية واتفاق على المبادئ دعاني للغذاء على عين المكان كما كان متعوداومن يومها لم تنقطع صلتي به ابدا وزادت توطدا لما تغيرت مسؤولياتي واستقر بي المقام بالعاصمة فاصبحنا نتقابل أسبوعيا مع نخبة من الأصدقاء توفي أكثرهم واتذكر منهم القاضي حسن الجوادي ووزير العدل الأسبق رضا بن علي ولم ينقطع احد منا عن مجلسنا ذلك لسنين وادينا فريضة الحج معا ذات عام وكان المرحوم محمد بن اسماعيل سببا فيه اذ هو من نظم وسهل مهمتنا وبقيت لي عن ذلك ذكريات حسنة ونوادر ما زلت احفظها واترحم عليهم بالمناسبة. لقد اصبحت من وقتها مقربا منه ومستشاره القانوني ومحاميه في القضايا الكيدية التي كونها له نظام الحكم السابق لما أخذ بعدا منه بامتناعه من تبييض تجاوزاته حتى طالته وتعرض للمضايقة بوضعه تحت التفقد المعمق من طرف إدارة الجباية التي اصبحت سيفا مسلطا عمن يخرج من طوع ذلك السلطان الجائر الذي طغى وتجبر وانتهى امره بالهروب للسعودية لا جيئا فيها وبقي صاحبنا المتحدث عنه مرفوع الرأس محبوبا لآخر أيامه وتجلى ذلك في اخر مرة شاهدتها في تلك المناسبة التي أقيمت كذكرى له وتعدادا لخصاله التي يضيق بها هذا المجال وتؤكد الطريق السوي الذي اتبعه في حياته في الصحافة الحرة التي تجرأت ذات يوم وانتقدت تجاوزات الحكم في بدايته منبها لخطورة المسار الذي اعتمده وسماه علنا بالحكم المطلق ووضع صورة للملك فاروق للإشارة ودفع من اجل ذلك ثمنا غاليا مع صاحبيه البشير بن يحمد ومحمد المصمودي الذي تجرأ ولم يقبل التخلي عن صديقيه وأقيل بسببهما من الوزارة ولكنه كسب قيمة إضافية وبات بعدها سفيرا لتونس بفرنسا ووزيرا لخارجيتنا ومهندسا لسياستنا لسنوات أعاد فيها تونس لمحيطها الطبيعي. ابتعد صاحبنا عن السياسة ولكن السياسة لم تبتعد عنه وأسندت للمتحدث عنه في بداية سبعينات القرن الماضي ادارة الاذاعة والتلفزة الوطنية لفترة قصيرة زمن وقفة التأمل والرجوع في سياسة التعاضد فأخرجها من الرتابة وخدمة الأشخاص الى جهاز إعلامي محترم ولكن ذلك لم يطقهوقتها رجال الحكم والدبارة فرمى لهم المنديل وعاد الى طباعة الكتب ونشرها حتى باتت مؤسسته الاولى في تونس والمغرب والعالم العربي وما زالت بفضل ابنيه وحفيده يوسف والعاملين فيها. لقد اقترب لفترة ما من جماعة الحكم الجديد الذي انقلب على بورقيبة ولكنه لم يجد له فيه ضالته فابتعد عنهم غير متحسر ودفع من اجل ذلك ثمنا غاليا وجرجر امام المحاكم في قضايا مركبة كنت فيها الى جانبه كمحام وقدرت عزة نفسه وصبره على المكاره وعدم تنازله عن مبادئه مفضلا أخذ مسافة كافيه تسمح له بالاهتمام بشؤونه بدون سعي للتقرب ممن جربهم ونفض الى الأبديديه منهم، كنا وقتها على اتصال دايم نستعرض الاوضاع والانحرافات التي بدأت تتعاظم وكنت ايامها متعهدا بقضايا الوزير الاول الاسبق المرحوم محمد مزالي وكان متعاطفا يسألني عنه كلما تطورت قضيته، وكانت تلك عادته اذ لم اعرف عنه تخليه عن أصدقائه لما تحل عليهم غضبة السلطان الأوحد ورأيناه كيف يحتضن نور الدين بن خذر بعد خروجه من محنته ويقبله للعمل في مؤسسته لسنين ويعيد له الامل وتلك صفة نادرة لم تتكرر من غيره كثيرا. ذلك هو ومحمد بن اسماعيل الذي عرفته واجتمعنا في ذكرى وفاته ولم يتخلف أحد من أصدقائه عنها فأردت ان اذكر به مرة اخرى واترحم عليهبالمناسبة.