سأكتب لكم هذا اليوم عن المرحوم الحاج عبد الرزاق تقية رجل التربية والتعليم واول رئيس لبلدية طبلبة المحدثة سنة 1957 إثر استقلال تونس وعودة الحكم لأهلها بعد استعمار لها من فرنسا دام نحو سبعين عاما. ولد المتحدث عنه في عائلة محافظة اهتمت بالعلم والعمل وتحفيظ القران الكريم وإمامة المصلين بالمساجد والجوامع وامتهان عدالة الأشهاد لعدة سنين. وأسوة بغيره حفظ صاحبنا القران وانخرط في الدراسة بجامع الزيتونية وتخرج منه بشهادة التحصيل وباشر بعدها التعليم بمدرسة الهداية القرآنية بطبلبة ثم تولى ادارتها لعدة سنين. عرفته من بعيد لفارق في السن اذ كان يكبرني بعدة سنين، وكان أقرب لشقيقي الشيخ محمد بوسمة والمرحوم فرج جمعة وقد كتبت عنهما سابقا للذكرى. تولى التعليم بتلك المدرسة التي تخرجت منها بالشهادة الابتدائية قبل مجيئه اليها وإنخرطت التعليم الثانوي والعالي وعينت معتمدا لعشر سنين في أنحاء الجمهورية. جمعتنا السكنى معا بعدها في حي الرياض المستحدث بطبلبة بعدما انخرطنا في تعاضدية للبناء أنشأناها لإقامة مساكن لنا في بداية ستينات القرن الماضي، ومن حسن الصدف ان القرعة أعطت لنا قطعتي ارض متقابلتين يفصلنا الطريق الذي لم يكن كثيف المرور مثلما أصبح عليه حاله الآن. ومن يوم انتقاله بالسكنى بعد ان هدم مسكّن عائلته المجاور للولي سيدي عياش جدنا الأعلى وذلك لتوسعة الفضاء الذي شيدت فيه البلدية والحي التجاري الذي عوض الرحبة وفتح الطريق المؤدي للبحر والمعهد الثانوي الجديد بطبلبة، لم نفترق وكلما رجعت لبلدتي طبلبة في العطل والمناسبات كنا نتزاور ونلتقي لسبب او بدونه واختلطت عائلاتنا وباتت زوجتي تجد راحتها مع زوجته الفاضلة الوفية خاصة لما تمتلئ علي الدار بالضيوف وذلك للسلام او للزيارة والسهرة لما كنت معتمدا أو وال او نائبا بمجلس الامة ممثلا في ولاية المنستيرلطبلبة. كان ذلك في ستينات وسبعينات وحتى ثمانينات القرن الماضي زمن بناء الدولة وحملة التعاضد المنحوسة التي تم الرجوع فيها وما تلاها من تحولات واحداث أتذكرها الى الان وكما كتبته عنها في ذكرياتي التي نشرتها في صائفة 2015 في كتاب اخترت له عنوانا (ذكريات وال في الزمن البورقيبي) لخصت فيه مسيرتي على مدى خمسين عاما. كما كنا نلتقي في مجلس خاص أعده لنفسه المرحوم عبد السلام البدوي وكان من وجهاء البلدة منتجا للزيت والزيتون والاتجار فيه وله معصرة تقليدية مجاورة لذلك المحل ومن ابنائه المشهورين استاذ الاقتصاد المتميز عبد الجليل البدوي اطال الله في عمره لتستفيد منه تونس التي أصبحت في اشد الحاجة من امثاله المختصين. وكما كانت التقي بذلك المجلس بنخبة من رجال طبلبة ومنهم على سبيل الذكر المترجم له والحاج فرج بن فضل وصالح بالغيث وخليفة المستيري وقد انتقلوا كلهم الى رحمة الله. أردت بهذه المناسبة التذكير بهم وفاء ولاني كنت انضم اليهم كلما تواجدت بطبلبة . اما عن المتحدث عنه الحاج عبد الرزاق تقية فقد كان على غاية من علو الهمة والنبل والتواضع والزهد والكياسة محبوبا من كل الأجيال التي تلقت عنه العلم او زاملته في العمل او الدراسة او احتكت به في حياته فِي مسيرته الطويلة في طبلبة وفي منزل بورقيبة التي ادار فيها مدرسة ابتدائية لبضع سنين ترك بها اثرا مستمرا. ومن صفاته البارزة انه لم يكن محبا للظهور في المناسبات الرسمية وكل همه المدرسة التي يديرها بحزم وجدية والتلامذة المسؤول عنهم الى درجة انني لم أجد مثله فيمن عرفت. واتذكر انه ذات مرة وجد نفسه رئيسا لأول مجلس بلدي تأسس بطبلبة كان له الفضل في تركيزه ووضع الأسس اللازمة له بدون إرهاق للمتساكنين حتى يتعودوا على الحياة الجماعية بعد خوف ورهبة ولكنه في اول انتخابات رسمية امتنع من الترشح بالرغم من عرضها عليه. وفِي مناسبة اخرى عرضت عليه امامة الجمعة في الجامع العتيق بطبلبة بعد شغورها بوفاة والده المرحوم عبد القادر تقية فتهرب منها، ومن وقتها بات يجالسنا في المقاهي ويتفرج علينا نلعب الورق ودومينو بدون ان يشاركنا فيها ليتهرب ويدفع عن نفسه تلك الخطة التي عرضت عليه والتي تتطلب التحفظ امام العموم ولانه كان يخاف منها ويخشاها وقد علمت ذلك منه. كما اتذكر معارضته لشقيقه الهادي الذي كان يسعى لتولي خطة معتمد وكان مبوبا لها لما كنت واليا للولاة بوزارة الداخلية وذلك خوفا عليه من السلطة وعوضها بخطة ملحق اجتماعي بليبيا لعدة سنين قبل ان يتقاعد ويتفرغ لشؤونه الخاصة. اما هوايته المفضلة فكانت حبه للنجم الرياضي الساحلي بجنون وكان لا يتعشى ليلة انهزم فريقه المفضل مهما كانت الاسباب، وكما كان متحمسا لجمعية النسر الرياضيبطبلبة وشقيقه الهادي تقية الذي ذكرته كان مسيرها لعدة سنين ومغرما بها لحد الجنون وقد جعل منها هدفا وغاية وأعطاها عمره كله فكانت بذلك الجمعية الرياضية الوحيدة في الحمهورية التونسية التي بنت مركبا رياضيا متكاملا خاصا بها وعلى ملكها وناد لها بالبلدة تحول الان الى عمارة مؤجرة لبنك وريعها يعود كله للجمعية الرياضية لمجابهة المصاريف المتعددة الكثيرة. لم ينقطع المتحدث عنه عن الحياة العامة بعد تقاعده لسنين وكان يجلس في نادي التربية والاسرة الذي اقامه من ماله المرحوم محمود الشبعان صاحب الافضال الكثيرة وكنت كتبت عنه منذ مدة وقد تواصل اللقاء في ذلك الفضاء واستمر بعده ومازال مجلسا لقدماء المربين والحمد لله رب العالمين. اما صاحبنا المترجم له فقد بقيت ذكراه في النفوس التي سيطر عليها بالحب والتفاني وكثرة الاحسان في خدمة الغير من المقربين والاصدقاء. وبإيجاز شديد لم أر مثله في الرجال في بلدتي العزيزة طبلبة البهية اذ كان اول من يطرق بابي كلما راي سيارتي واقفة امام الدار ويأمر عائلته في الحين بإعداد الشاي وما يلزم ويحمله بنفسه لنشربه معا أو مع الزوار إذا صادف ان كنت وحدي يومها بالمنزل، حتى قلت يوما مازحا للأصدقاء، إذا قدر لي ان ابيع داري تلك فإني سأطلب فيها دينارا واحدا ثمن العقار ومائة ألف دينار قيمه لذلك الجار . وهكذا جزاه الله ورزقه أحسن الذرية ومنهم ابنه محمد الصالح الذي كان سفيرا لتونس بالولايات المتحدةالأمريكية وبعدها انتقل لتركيا بانقرة وقد لاقيته فيها ذات مرة وكنت صحبة الدكتور عبد الجليل التميمي في مهمة وكم وجدنا منه من عانية ورعاية ذكرتني بوالده المذكور المتحدث عنه في هذه السطور القليلة التي بقيت لي في الذاكرة كتبتها عن حب وحسرة على تلك الأيام التي لن تعود للوراء ولا املك له هذه المرة الا ان اتوجه الى الله كي يمن عليه برحمته وغفرانه ويسكنه فراديس جنانه ويطيل في عمر زوجته وابنائه وبناته واحفاده وحفيداته لتستفيد منهم تونس وتزول عنها الغمة.